الأقدار وحدها هي التي ساقتني إلى مستشفى (جرش) الكائن شرق الخرطوم.. والحكمة الإلهية هي التي جعلت جلوسي يأتي مصادفة بالقرب من تلك السيدة الهادئة التي يتسم محياها بأسى عظيم وحزن يرسم ملامح وجهها الشاحب.. كانت في جلستها تلك شاخصة النظر.. ترنو إلى المجهول.. وعيناها مثبتتان على الجدار وكأنها تستعرض بذهنها أفكارا أو مشاهد.
ذلك الهدوء الحزين لم يستطع أن يخفي ضجيج عينيها بالحيرة والدمع المتراكم.
أثار مظهرها العام فضولي الصحفي.. وشعرت أن وراءها حكاية غريبة.. أعترف أن صمتها الطويل وانزواءها استفزا رغبتي في الحديث.. فبحثت عما أبدأ به مناوشتها، ولم أجد أفضل من رفع صوتي بالأسف على عودة الملاريا والتايفويد للطفو على سطح صحتنا لاسيما لدى الأطفال.. همهمت ببعض كلمات متحسرة على إصابة ابني بالتايفويد ملقية باللوم على إمعانه في اللعب دون اكتراث لنصائحي وكلماتي.
قلت لها: (أولاد الزمن ده عنيدين وما بيسمعوا الكلام واليوم كلو في اللعب والكلام الفارغ!!)..
ابتسمت باقتضاب وتنهدت وهي تشد ظهرها على المقعد وقالت لي: (الحمد لله.. ربنا يحفظ ليك عافيتو وجريهو.. غيرو ما قادرين يرفعوا رأسهم)…!!!
كانت عبارة غريبة لها ما وراءها.. فلم أجد بدا من سؤالها مباشرة عن سبب وجودها بالمستشفى!.. ولكأني بها تداعت كل طاقتها على الجلد.. وبدأت تحكي لي بصوت منخفض ونشيجها يتعالى عن ابنتها الطفلة ذات الاثني عشر ربيعا والتي تعاني من اعوجاج في السلسلة الفقرية تصاعد عليها شيئا فشيئا حتى أقعدها عن الحركة فلم يعد لها أمل في دراسة أو لعب أو هواية أو مستقبل!!
ثم أخرجت لي رزمة الأوراق التي تحملها وفيها صور الأشعة وتقرير الطبيب والتوجيه بإجراء عملية أوضح كشف نفقاتها أنها بلغت حوالي الـ60 ألف جنيه سوداني على أن يتم إجراؤها في فترة لا تتجاوز الأربعة أسابيع تحت عناية الدكتور (حسام الخواض) بمستشفى (جرش) !!
قلت لها: (الحمد لله .. لسه في أمل.. إن شاء الله تعمل العملية وتبقى أحسن من الأول).
ولم أكد أنهي كلماتي حتى انخرطت الأم الواهنه في بكاء مر وقفنا جميعا أمامه حائرين دون أن ندرك الأسباب أو ننجح في تهدئتها.
وبعد أن أنهكها البكاء قالت لي من بين بقايا الدموع: (أنا ما عندي ولا ستة ألف)!!! وليس هناك من يعينني على أمر هذه التكاليف.. فلست سوى سيدة تعيسة فر منها زوجها ولا تدري له مكانا وترك في عنقها ثلة من الأبناء الصغار زغب الحواصل دون عائل ولا معين ولا مصدر دخل ثابت.. فقررت أن أستعين على الحياة بالصبر وبعض المهن النسائية الهامشية التي لا تسمن ولا تغني عن جوع ولا تكفي لسد رمق الصغار وإيوائهم وتعليمهم وكسائهم ناهيك عن علاجهم!!!
أصدقكم القول إن مهنتنا هذه تجعلنا عمليين في كثير من مشاعرنا.. ولكأنما يجعلنا تكرار الحالات والحكايات والمواقف أقل عرضة للتأثر.. غير أن مشهد تلك الأم حرمني النوم.. وكنت قد طلبت منها رقم هاتفها للتواصل دون أن أفصح لها عن هويتي. وظللت طيلة الأيام السابقه في حيرة من أمري عما يمكن أن أقدمه لها من مساعدة تقيها شر العوز وتعجل بشفاء ابنتها الصبية الجميلة!!
ثم اهتديت لإشراككم في هذا الهم.. إيمانا مني بأن الخير فيكم عميم.. وأنكم تستشعرون مثلي المعاناة الصادقة ولديكم الاستعداد للتفاعل الإيجابى.. وأشهد الله أنني استوثقت من كافة المعلومات.. وسألت إدارة المستشفى.. وتأكدت من تدهور حالة الفتاة الصحية ووضعها الحرج الذي لا يحتمل الانتظار.. ولدي صورة من التقارير والصور الطبية التي تشرح الحالة.. ثم إن مظهر الأم العاجزة يمزق نياط القلوب ويستحق أن نتنادى جميعا للتراحم والتصدق، عسى الله أن يذهب عنكم وعن أبنائكم البلاء بصدقة لا تنقص من مال ولا تفقر ولكن كل نعمة بها تربو وتزيد.. ولنؤكد دائما أن الخير فينا إلى يوم القيامة وهذا ما قاله رسولنا الكريم من فرط حسن ظنه بنا.
وقانا الله وإياكم شر الفاقة والعوز والمرض والعجز والحيرة ونكبة ثمرات الفؤاد.
تلويح:
للمساهمه أو الاستيثاق وتقديم يد العون تلفون مستشفى (جرش) 0912432643
[/JUSTIFY]إندياح – صحيفة اليوم التالي