رأيت أن أقرأ بعض مشاهد هذا الشمال الأثير من خلال الأخ الصديق الروائي نبيل غالي، وذلك عندما حرصت أن أجلس إلى جانبه داخل الحافلة التي تقل أسرة صحيفة (اليوم التالي) في رحلة واجب العزاء إلى أسرة الأخ مزمل أبو القاسم الشريف بمدينة شندي بمناسبة رحيل عميد الأسرة، نسأل الله أن ينزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين حسن أولئك رفيقاً.
*وعندما تضع مصفاة الجيلي وراء ظهرك لا شيء جديد سوى (الصحراء) ورجال المرور وذكرت للأخ نبيل قصة مقال أحد الصحفيين الأمريكيين، لما رأى ذلك الصحفي ثراء الجنوب الغابي والمطري وفقر الشمال الصحراوي، وكانت الإنقاذ يومئذ على أيام صيف العبور واحتدام مشروعها الإسلامي، كتب يومها ذلك الصحفي الأمريكي مقالاً باهظاً تحت عنوان (اتركوا الشمال لله والصحراء)!
*وبطبيعة الحال والرحلة قد مررنا من أمام قبة الكباشي، ما أشبه الليلة بالبارحة، والرحيل بالرحيل يذكر، عندما نعى الشاعر عكير الدامر صديقه الشيخ الجيلي الكباشي بتلك الأبيات التي تهتز لها الأفئدة والقلوب.
خبر الشوم طلق هزَّ القبب واترجَّت
والنار في الدراويش البترجمو وجَّت
أسراب المعزين بالشوارع عجَّت
وربات الخدور نزعت حجابها وقجَّت..
*تحسَّر الأخ نبيل كثيراً، إذ لم تقم وثبة استكشافية واحدة جادة في منطقة جبال قري وجاري والرويان، فعلى الأقل إن في باطن تلك الأرض كثيراً مما نجهله من معادن، ربما لو استكشفناها لكان حالنا مثل حال ذلك الإعرابي في (مسرحية مقتل ودكين) الذي امتطى جمله، وهو (يدوبي) بعد ظفره بحفنة ذهب.
يا صاحبي الفقر أنا وانت ماتفارقنا
غرِّب عديل شرَّقنا
*وتسعفنا فقرة أخرى من المسرحية نفسها ونحن بين يدي روائي باهظ، قول العباسي..
ألهيكم تمام فيها ما بتنقلبو
تعرفو للقنيص ترعو وتعرفو تحلبو
أعني أننا كأمة سودانية مستغرقون ومستهلكون للآخر في العملية السياسية، ولم نبلغ بعد مرحلة البحث عن مكنونات الأرض، ولم نتجاوز بعد مرحلة البحث عن الذات (من نحن وماذا نريد؟)!
*وطرفة أخرى للمرحوم محمد علي الرباطابي ربما تسعفنا وترفد جدلية السياسة والإنتاج عندما مرت من تحت أرجلهم حشرة (الكربة)، وهي مسرعة كعادتها قال الرباطابي الابن للأب “يابا دي بتعضي”! قال الأب: “هي دي يا ولدي فاضية من الجري)!
*يقول القاص نبيل، إذا غفرنا لحكوماتنا عدم القيام بالاستكشافات المعدنية، لا نستطيع أن نعفر لأجيالنا المسرحية عندما لم تنهض بمسرحية واحدة تجعل من هذا التاريخ والجبال خلفية مذهلة لعمل درامي شاهق تنبه له كل الشاشات العربية!
*هنا التاريخ فقط الذي بمقدوره أن يتحدث، فما إن تضع مملكة العبدلاب وقري وراء ظهرك حتى وتتبدى لك تخوم (النقعة والمصورات) ثم مدينة شندي بإرثها التاريخي التليد، وكنت قد اقترحت على الأخ المعتمد النشط الأستاذ حسن الحويج أن يكتب على مدخل ولايته من الجنوب عبارة (احترس أمامك تاريخ) لكن الحويج وبشهادة الروائي نبيل قد نجح في تجميل مدخل مدينته ورصف وتسوير طرقها، فبدت شندي مدينة رشيقة شفيفة، وكما التيجاني يوسف بشير في قصيدته (هي معهدي) اهتف (هي مدينتي)، فلقد مررت يوماً من هنا عندما لبثت ثلاث سنوات بمنزل جدنا شيخ العرب عبد المطلب محمد أحمد (بشندي فوق) على أيام شندي الثانوية، فبعض (أشراف عمري) مدفونة ما بين معهد التربية والحجازة ومحطة السكة الجديد، شجعت يومئذ فريق ساردية بعنف ربما لأننا (أولاد ريف) وأكلنا طعميتها ولبسنا فرادها ولعبنا كرتها وكتبنا حروفنا الأولى..
*يتحمل أبناء الراحل أبو القاسم الشريف وأحفاده بجلد أحزان مصابهم الكبير وتستطيع أن تقرأ دفتر علاقاتهم الممتدة من خلال الحضور النوعي بخيمة العزاء، ذلك مما يخفف ألم المصاب.. ألهمهم الله الصبر الجميل..
*عدنا وتركنا بعض حزن وأشواق ودعاء وعهد وراء ظهورنا ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
ملاذات آمنه – صحيفة اليوم التالي