ليست هناك قيمة لأي مُتنزهٍ أو ساحة خضراء ما لم يُلبيا أهدافهما كوسيلتي راحة وترفيه، ومن تلك الأهداف (بعض منها فقط)، توفير الظلال، الحماية من حرارة الشمس وتلطيف الجو، تنقية البيئة من الأتربة وتقليل التلوث كسر حدة الرياح والعواصف الترابية وتثبيت التربة، توفير أماكن هادئة للعب الأطفال في مأمن من الحوادث المختلفة وبعيداً عن الضجيج، وتوفير أماكن مُناسبة للاستجمام وهدوء النفس وراحة الأعصاب بعيداً عن صخب الأسواق والأماكن التجارية.
ما لم تلبِ تلك الأماكن ما سلف، فإنها ستغدو غير قابلة للتنزه ولا الاستجمام، ولن يكون هنالك فرق بينها وبين أي مطعم أو محل تجاري مُطل على شارع رئيس كثير الضجيج والتلوث. وهذا ماذا يحدث الآن في (متنزه الرياض) بالخرطوم، هذا المكان ظل ولسنوات طويلة قبلة لمواطني الأحياء القريبة منه، يأخذون إليه أطفالهم كي يقضوا أوقاتاً ممتعة في فضاء مخضر ومكشوف، يستنشقون هواءً نظيفاً، ويلهون بعيداً عن الضجيج.
ثم بغتة، بدأ كل شيء يتغير، وعلى امتداد (سور) المتنزه من معظم جهاته، خاصة تلك المطلة على الشوارع الرئيسة كشارع المشتل نهضت مبانٍ لمطاعم ومحلات تجارية، فاختفى جراءها المتنزه بعد أن غرق في (لجتها)، وبالتالي فقد صفته وأهدافه، التي صُرِّح له بالعمل بموجبها مثله مثل أي متنزه آخر، والذي يريد أن يقف على الأمر من المسؤولين، إن كانوا لا يدرون فالمسافة قريبة، ولا تبعد عن وسط المدينة إلا فركة كعب.
الآن، وفي هذه اللحظة التي أكتب فيها تمضي أعمال البناء على قدم وساق، وبسرعة كبيرة، بينما المواطنين في ذهول مما يحدث، ولسان حالهم يقول: كيف تسمح السلطات لجهات ما، مهما بلغ شأوها أن تسرق منهم بيئة نظيفة لتلوثها بهذه الصورة المريعة، ومن الذي سمح بتحويل الغرض من (التصديق) لهذه المساحة الكبيرة من الأرض الخضراء ذات الموقع الجغرافي المميز من غرض ترفيهي إلى آخر لا يمت بأي صلة إلى الغرض الرئيس.
إذا كانت سلطات ولاية الخرطوم، هي التي سمحت بذلك، فهذه كارثة كبرى، وإن كانت لا تعلم بما يجري فالكارثة أكبر، خاصة وأن مواطني الخرطوم ليسوا بحاجة إلى مطاعم فخمة بعد التطاول في البنيان وما يحدث في العاصمة من شغب معماري، بحسب توصيف الدكتور منصور خالد، بقدر حاجتهم الماسة إلى ساحات وميادين ومتنزهات تعيد إلى رئاتهم تنفسها الطبيعي، بعد أن أتلفتها هذه الغابات الخرسانية المكسوة بمعدنِ الألمونيوم سيئة الصيت ورديئة البناء.
ما يحدث لمتنزة الرياض، أمر خطير، لقد تآكلت أطرافه، وحجبته المباني متنه عن الناظرين، وحرمت الأطفال والرجال والنساء من (نسمة هواء) نقية، ومن هنا ندعو ولاية الخرطوم والوالي شخصياً التدخل لإزالة تلك المباني التي لاقيمة لها، ولا يستفيد منها إلاّ عدد قليل، يمكن إيجاد محلات لهم في أي مكان آخر في هذه العاصمة (الوسيعة) يبيعون فيه (الهوت دوق، والأقاشي والتشيبس، والدجاج المشوي على الجمر). وليتركوا هذه المساحة رئة للمدينة ومتنفس لها.
أما بعد: هلا تحركت في الأمر سريعاً أيها الوالي عبد الرحمن الخضر قبل أن يسرق من المواطن المسكين (كل المتنزه).
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي