لماذا انحسرت الحرب في السودان سريعاً؟.. قراءة في العامل المرجّح

عندما اندلعت الحرب في السودان في منتصف أبريل 2023، كانت التقديرات المتشائمة تتحدث عن صراع طويل الأمد قد يمتد لعشر سنوات أو أكثر، على غرار نماذج الحروب الأهلية في بعض دول الجوار، لكن ما حدث على أرض الواقع كان مغايراً تماماً؛ فها هي رقعة الحرب تنكمش، وتتقدم القوات المسلحة بشكل مستمر في ولايات عدة. فما هو العامل المرجّح الذي قلب الموازين؟
الإجابة الأقرب للواقع تكمن في غياب الحاضنة الشعبية الحقيقية للمليشيا، مقابل وجود حاضنة وطنية واسعة للقوات المسلحة السودانية. فمنذ اليوم الأول، كانت ردة فعل السودانيين تجاه قوات الدعم السريع هي الهروب والنزوح، لا الاحتضان والتعاون. لم تظهر تلك “البيئة المرحبة” التي كانت المليشيا تراهن عليها. وعلى العكس تماماً، ظهر انحياز شعبي عفوي للدولة، للجيش، ولرمزية الوطن في مقابل مشروع التفتيت والنهب والابتزاز.
في المدن الكبرى والقرى الصغيرة، تكرر المشهد: الدعم السريع يدخل، والسكان يفرّون نحو مناطق وجود الجيش، حتى لو كان ذلك يعني اللجوء إلى الخلاء أو المعاناة في المخيمات. لم يحدث أن استقرت المليشيا في منطقة وبنى الأهالي معها علاقة تعاون حقيقي. بل ظلت غريبة، مرفوضة، ومثيرة للذعر أينما حلّت. هذا الغياب للحاضنة المجتمعية أضعف قدرة المليشيا على التمدد الفعّال، وجعلها معزولة، مرهقة، تعاني من خطوط إمداد هشة، ومنزوع عنها الغطاء الأخلاقي والسياسي.
بالمقابل، أثبتت القوات المسلحة السودانية تماسكها التنظيمي رغم صدمة البداية، واستطاعت أن تخلق توازناً ثم مبادرات استراتيجية مكّنتها من امتصاص الضربات الأولى، ثم الانتقال إلى الهجوم واستعادة المبادرة. الجيش السوداني استفاد من الدروس القاسية التي خاضها في حرب المدن لأول مرة في تاريخه. فالحرب ضد مليشيا الدعم السريع فرضت على الجيش تحديات غير مسبوقة، لكنه سرعان ما تأقلم مع واقع حرب المدن ونجح في تغيير استراتيجياته بما يتناسب مع تضاريس البيئة الحضرية. واستطاع توظيف مرونة قوات الإحتياطي المركزي وهيئة العمليات، والمستنفرين بشكل فعّال لدعم جبهات القتال.
سيخرج الجيش السوداني من هذه الحرب أكثر قوة وكفاءة، وسيكون مستعداً بشكل أفضل للتعامل مع تحديات المستقبل. لقد أثبت أن الحروب لا تقتصر على القتال فقط، بل هي مدرسة تعلم الجيوش الصبر، الابتكار، وقوة الإرادة، وهو ما تجسد في تحوله من صدمة البداية إلى سلسلة من الانتصارات المتتالية.
الوعي الشعبي أيضاً كان حاسماً؛ إذ فشلت محاولات تصوير المليشيا كقوة منقذة أو كحاملة لمطالب مدنية، وظهرت حقيقة مشروع التمرد القائم على النهب وانتهاك كرامة الإنسان. كما أن المزاج الإقليمي والدولي بدأ يتحول تدريجياً بعد أن اتضح أن السودان أقوى مما كان العدو يتصور، وأن استمرار هذه الحرب بصيغتها القائمة يشكل تهديداً لاستقرار المنطقة، خصوصاً في ظل الجرائم الممنهجة التي مارستها المليشيا في ولايات الجزيرة وسنار ودارفور والخرطوم.
صحيح أن الحرب لم تنتهِ تماماً، لكنها انحسرت بشكل ملحوظ، وأصبحت كفة الدولة هي الراجحة. ولا تزال أمام الجيش والشعب تحديات جسيمة لحسم هذا التمرد نهائياً، وقطع دابره في كردفان ودارفور، إضافة إلى ضرورة إيقاف هجمات الطائرات المسيّرة التي تستهدف مدن وقرى الشمالية ونهر النيل، وهو ما يتطلب صبراً، وتخطيطاً، وتكاتفاً مجتمعياً.
لقد حُسمت هذه المعركة، في وجهها الأهم، من قِبل الشعب. الشعب الذي رفض أن يُحكم بالبندقية، ورفض أن تُنهب دولته، ورفض أن يُدار وطنه بعقلية العصابات. وهنا تتجلى الحقيقة: الشرعية تُنتزع من وجدان الناس، لا من فوهة البندقية. ولذلك بدأت الحرب في الانحسار، لا لأن الرصاص توقف، بل لأن الناس قالوا: لا للمليشيا.
عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان