رأي ومقالات

الطاهر التوم يكتب: تقبيل التراب… عودة وعي

توقفتُ طويلاً عند مشهد التقطته كاميرا أحد جنود القوات المسلحة خلال عملية تحرير الجزيرة من مليشيا آل دقلو المجرمة. كانت الصورة من داخل سيارة عسكرية تشق طريقها وسط حشدٍ من المواطنين المبتهجين، يهتفون ويهللون للنصر. وفي لحظةٍ عابرة، انحنى أحد المواطنين نحو الأرض والتقط قبضةً من التراب ثم قبّلها.

هذه اللقطة، بكل بساطتها، اختزلت لي معنى لطالما غاب عنّا وتوارى عن مفرداتنا، بل عن وعينا الوطني نفسه: قيمة هذه الأرض في نفوسنا. فهي ليست مجرد ذرّات رمل، بل هي الانتماء والارتباط والجذور.

نعم، عاد القصر الجمهوري، معلنًا طيَّ فصلٍ مهمٍّ من فصول هذه المعركة الشرسة. ومن يدرك مدى تعقيد هذه الفصول وتشعّب تفاصيلها، يفهم لماذا خرج حميدتي في تسجيله الأخير ليعلن تمسّكه بالبقاء في القصر وعدم مغادرة الخرطوم. فهو، أو من دفعه لخوض هذه الحرب، يعي تمامًا ما يعنيه أن يستردّ الجيش القصر الجمهوري والخرطوم.

في هذا القصر، رُفع علم الاستقلال لأول مرة في تاريخنا، إعلانًا لميلاد دولة ذات سيادة. واليوم، نعود إليه لنرفع العلم من جديد، ربما على السارية نفسها، لكن بعد أن نزفنا دماءً غاليةً ودفنّا في ثرى هذه الأرض آلافًا من أبناء الوطن المخلصين .

كلفة الوصول إلى القصر عام 1956 لم تكن كمثيلتها عام 2025. هذه المرة كانت الكلفة أكبر وأثقل، دمًا ودمعًا وخرابًا. لذلك، فإن الوعي الذي يولد فينا بعد هذا المسير الشاق لا ينبغي أن يكون عابرًا أو سطحيًا.

لو عدنا من هذا المسير الشلق والمؤلم بصورة ذلك المواطن الذي قبض في كفّه ذرات التراب ثم قبّلها، بما حملته تلك الصورة من وعيٍ ودلالةٍ ومعنى، لكفانا.

الطاهر التوم