وللقيادة العامة علينا حق
من أحاجي الحرب (١١٨٥٩ ):
○ كتب: أ. Mohammed Nani
وللقيادة العامة علينا حق…
“سعت 1000.. وقد إنتهت مهامي كضابط مناوب، الأحوال هادئة ولا شيء يُذكر”
بهذه الجملة على دفتر الأحوال ختمت مناوبتي ببرج القوات الجوية صباح يوم 14-4-2023.. صحيحٌ أن الأحوال هادئة كما تبدو داخل سور قيادة القوات الجوية لكن بالخارج وخصوصاً في معسكرات الدع. م الس.ريع التي تحاوط القيادة من الناحية الغربية وحي المطار ومعسكر الرياض الأمور كانت بالنسبة لي غير هادئة تماماً…
ليلة ال13 إستلمت تمام قوة الخدمات وقوة الإستعداد من الرقيب النوبتجي والتي لا تتعدى الثلاثين فرداً وبهم من كانوا غياباً، وجهت الرقيب بأن يتواصل مع الأفراد الغائبين ويعلمهم بالحضور قبل الساعة ال12ليلاً حتى لا ألجأ لتسجيلهم في دفتر المناوبة كغياب وما يترتب عليه من دخول مكاتب وخصم من رواتبهم التي هي بالأصل لا تكفي لشيء.. يمكنك إدراج تصرفي تحت بند “أهلك سيعانوا إذا خصمنا من راتبك”، لكن إذا لم يحضروا حتى ذلك الوقت فلستُ بأحن على أهلك منك…
عُدت من باحة التمام وفي الإستراحة التي في المدخل وجدت قائد القوات الجوية الفريق “الطاهر أدروب” جالساً يتحدث بهاتفه، علمت أنه حتى في الأيام السابقة لا ينصرف إلى بيته إلا نادراً، ألقيت عليه التحية ودخلت مكتبي…
التصعيد العسكري من جانبٍ واحد ظاهراً للعيان، فحالة الإستعداد في الجيش خُفضت بعد تحرك قوات إلى مروي، بينما الحال في المعسكر الآخر مختلف…
أقرر المبيت في العمل حتى يتسنى لي صبيحة فجر الخامس عشر الذهاب إلى “لفة جوبا” لعملٍ خاص بحكم قرب القيادة منه.. الأمور مرتبة ومعي مفتاح مكتب الشهيد العقيد “مصطفى” يمكنني أن آخذ راحتي هناك.. يبدأ النعاس يتسلل إلى عيني وفجأةً يقطعه هاتف من العزيز ود الجاك يخبرني فيه أنه سيأتي اليوم مع عدد من أبناء دفعتي لتناول الإفطار معي، فيكون هذا سبب خروجي ذلك اليوم من القيادة…
أخلع الكاكي وأرتدي قميصي السماوي الذي يجعلني أشعر بزهوٍ عند لبسه، أضع نظارتي في وجهي وأضع حقيبتي في ظهري، وعند المخرج أصادف الفريق “الطاهر” في نفس جلسته…
أدخل إلى مسجد القيادة لصلاة العصر، وقبل أن أدخل أُهاتف أحد جيراني لتجهيز “صينية” لي ولضيوفي القادمين، هكذا هي حياتنا في “الرميلة”.. لا تحمل همَّاً لمثل هذه الأمور، وكل البيوت بيتك، وضيفك ضيف الجميع…
لفت نظري أثناء الصلاة تواجد جنود الدع.م السري.ع بعددية كبيرة توحي بأن إستعدادهم كان في الدرجة القصوى.. خرجت من المسجد واتجهت غرباً ومررت بمعسكر الد.عم الس.ريع خلف رئاستهم، ظهر لي ما لا يقل عن ال400 كروزر مشونة بكامل تسليحها..
مررت بمعسكر الرياض قبل الحرب بإسبوع فبدت لي التجهيزات واضحة، فهذه العربات المصفحة والمدولبة التي تفوق ال300 لها ما بعدها..
قبلها بثلاث أيام ساقتني الأقدار لدخول حي المطار ومررت بمنزل قائد المليشيا ووجدته قد تحول إلى ثكنة عسكرية بها ما يقارب ال80 كروزر وعدد من المدرعات ال BTR وكراكة، لفتت نظري الكراكة فقلت لمن معي وهو كان يعمل معهم “كراكة؟! دايرين تكسرو بيها بيت عمك برهان ولا شنو؟”.. ضحك الرجل، وللأسف كان كلامي صحيحاً لأنها استخدمت في كسر حائط بيت الضيافة…
في طريق عودتي من السوق العربي بدأ رأسي تدور به كثير من السيناريوهات والأفكار.. كان هنالك إعتقاد في تلك الفترة أن هذا التصعيد “الذي هو من جانب واحد في الأصل” ما هو إلا مسرحية لغرض معين ولإقناع المدنيين بذلك المصطلح الذي ظهر فجأةً وصُدِّعنا به، مصطلح “توسيع قاعدة المشاركة في الإتفاق الإطاري”.. لكن مهما كان الأمر مسرحيةً محبكة فهذا لا يعطي تبريراً ليخرج “عبد الرحيم دلقو” بتصريحات في صحيفة واشنطون بوست.. الأمر حرب واضحة قادمة، لكن متى؟ وكيف سيكون الحال؟!.. لا معلومات لا تنوير لا شرح، إلا ما تقوم بترتيبه من معلومات مبعثرة وقصص ناقصة تصل أُذنك من بقية الزملاء في الوحدات المختلفة، فقط تحاول أن تفهم بنفسك…
“أنزل يا شاب، وصلنا آخر محطة” يقطع الكمساري حبل تساؤلاتي التي بدأت أسألها لنفسي قبل قليل، كم مضى من الوقت حتى أصل؟ ربع ساعة!…
سبحان مبدل الأحوال، أصبحت أصل بيتي في ربع ساعة فقط.. تذكرت أيام عملي في “جبل أولياء”.. كنت أخرج من منزلي بعد صلاة الصبح وأعود بعد المغرب على أفضل حال، فأعود وحالي كمن أصابه شلل نصفي من التعب والإرهاق..
قرأت مقالاً قبل مدة تحدث عن فترة حكم “هتلر”، كان المجنون إنتهج سياسةً إسمها “القتل الرحيم” للتخلص من المرضى والمعاقين بتجويعهم أو جعلهم يستنشقون غاز أول أوكسيد الكربون.. لو عاش هتلر في زماننا لجعل مشوار “جبل أولياء” أحد طرق القتل الرحيمة…
بعيداً عن ركشات “الدويحية” التي أركبها للوصول من سوق الجبل إلى القاعدة، الركشات التي كنا نركب فيها ومعنا الدجاج والأغنام والبشر فكانت تحملنا بكل حنان، وبعيداً عن القهوة في دكاكين الجبل التي سقط من سقفها “جقر” على قدمي وأنا أشرب…
اليوم صرت أشربها في شارع النيل أو شارع المين بجامعة الخرطوم وأنا أُمتع عيناي بمنظر “أم نخيل”، وأُذناي بسماع هرطقات ركن نقاش أو مشاغبة قردٍ يحاول أن يخطف كوب عصير من الذي يجلس جواري…هكذا بدت الحياة تتغير بالنسبة لي، “سبحان من أسرى بنا من القرود إلى الجقور” هكذا أقول حينها لنفسي …
في صباح ال15 من أبريل عندما بدأت الحرب لم يكن يخطر على بالي أن القيادة العامة ستصمد أكثر من ساعة أمام هذه الجحافل، كل من فيها لا يتعدون الألفان على أعلى تقدير كيف يواجهون هذا الأرتال التي تفوق عرباتها ال800.. كل ما في الأمر أنني ادعيت أن الأمر بحساب العدة والعتاد محسومٌ للعدو، لكن فات عليَّ أن الأمر ليس عدة وعتاداً فقط، قلوب الرجال أهم من كل شيء…
رجالٌ أوعدوا وأفوا وحافظوا على بوابات قيادتهم وتراصوا للزود عنها والموت دونها، رجالٌ إقتطعوا سنتين من عمرهم في الحصار والجوع والمرض لحفظ الأمانة وكتابة التاريخ وقد كتبوا التاريخ بصمودهم.. رجالٌ لا خط للإمداد عندهم ولا مخرج ولا مدخل، يُصابُ الرجل فيعود ويحمل السلاح لأن خانته ليس من يبدله فيها.. رجالٌ علموا أن إنكسارهم في ذلك الوقت يعني إنكسار هيئة أركان الجيش وأسرها وسقوط رأس الدولة، فركزوا وتسابقوا للموت للزود عن رمزية البلاد والحفاظ عليها…
شاهدت صورةً بالأمس لغرفة تجرى بها العمليات الجراحية، رائحة الموت تملأ كل مكان، لا معدات طبية ولا مستلزمات ولا شيء كما لو كانت غرفة أشباح…
تذكرت الملازم أول Hammam Al-khateeb شفاه الله عندما شاهدت فيديو لإستخراج رصاصة من ظهره.. أظن أن ألم محاولة إخراجها منه كان أكبر من ألمها عندما أصابته، قلت له مستعجباً “كان يبنجوك”.. ضحك وقال لي “بنج من وين يجيبو ليك”… تحمل الرجال كل الآلام وحملوا كل الآمال وكانوا في الموعد…
ولرجال القيادة العامة “ولتعودوا لبيوتكم رجالاً كما خرجتم منها آخر مرةٍ قبل عامين”..
وإلى شهداءكم وكل شهداء القوات المسلحة الذي ما بخلوا بأرواحهم وما أوجسوا خيفةً في أنفسهم إلى أن لقوا ربهم، أولئك الذين لم تسمع بهم ولن تجد لهم صورة نعي أو شيء، من يمرون في رفقٍ ويسر كنسمةٍ تداعبك دون أن تعرف لها إسماً أو شكلاً.. تقبل الله جهدكم وجهادكم وجعلكم في أعلى جناته…
إلتقطت هذه الصورة يوم ال13 من أبريل 2023 بعد أن هاتفني صديقٌ عزيز كان بيننا موعدٌ فنسيته، عندما أخبرته بأنني مداومٌ هذا اليوم، رفض تصديقي إلتقطت هذه الصورة وقمت بإرسالها له.. لعلها آخر صورة قبل الحرب…
#رجال_القيادة_العامة
#Mohammed_Nani