الجنوب شعب ضعيف ويبعدُ حضاريًّا عن نطاقات شمال أفريقيا خمسمائة عام

دائمًا ما كنت أسخر من رمسنة المثقف السوداني للجنوبي في خطابه ومخياله. وشايف حالة التملّق المُقرفة لأي جنوبي مثلًا أظهر قدرات إبداعية في الكتابة؛ ويجد الاحتفاء الزائف ولو كان ما كتبه ركيكًا!
يكفي فقط أنْ تكون شاعرًا جنوبيًّا أو قاصًا جنوبيًّا؛ “جنوبيًّا” وحدها لتكون فاتنًا وساحرًا لدى النخبة الشمالية “المثقفة”.. وفقط لأنك جنوبي تجد نفسك مُحاطًا بالمدح والدلع من قِبل النخبة “المثقفة”.
ولو كنت صاحبَ بصيرة للمحت إلتماع أعينهم من الشفقة وللمست روحًا معتذرة منهم على الدوام حيال أي جنوبي!
لكن على ماذا الشفقة ولِمَ الاعتذار ولِمَ التملق؟
الله أعلم!
على مستوًى آخر كان أعرفُ الناسِ بالجنوبيين وبحقيقتهم المتفرّدة هم طبقة التجار؛ إذ تجذّرت علاقة التجار الشماليين في الجنوب أو من يُسمون ب”الجلابة” بالمجتمع الجنوبي، وتوغلوا عميقًا في جغرافيا الجنوب نفسها، وصنعوا علاقات صداقة وإخاء حقيقية متينة؛ بل تطوّر تفاعلهم الاجتماعي مع المحيط الجنوبي لعلاقات تصاهر وتزاوج وامتدادت عائلية راسخة.
الجنوبي في المخيال الشعبي لدينا لا يسرق ولا يكذب ولا يخون.. لكنه بالمقابل بدائي ومُتخلّف وأحمق؛ وبالتالي تسهل تعبئته، ويسهل توظيفه للعمل ضد مصالحه؛ وليس من الصعب استثارته للانقضاض على أصدقائه وإخوته؛ وبإمكانه نسف تاريخ مُمتد من الصلات الاجتماعية بين ليلةٍ وضحاها فقط بوشاية!
أما الجنوبي الذي تحتفي به الطبقة العلمانية الشمالية “المثقفة” فهو جنوبي الحركة الشعبية تحديدًا؛ الجنوبي المُتعجرف قليل الأدب. وهو مُتسم بأنه مأزوم تمامًا يحملُ عُقدة نفسية من الشعور بالاضطهاد والرغبة غير المبررة في الثأر؛ وهذا نفسه من صنع التحريض الكنسي الاستعماري، واعتناق نظريات التهميش وأسطورة أنه هناك “هولوكست” صممه الجلابي! وهذه حيلة خطابية مضللة كان أحد روادها الرجل المؤسف منصور خالد؛ وخالد أفلح في إدانة الجميع لكنه أفلت من النقد كون أنّه مُخرِّب عظيم الشأن.
أما الجنوبي الذي لا تستحسنه نخبنا ولا يجد منها الثناء ولا يُعار انتباهها هو جنوبي الشارع أو الغاب.. فهو على الدوام مُعتدٌ بنفسهِ وممتلئ بذاته ومحاسنها، ولا يحمل أدنى ضغينة ناتجة عن تصورات مُسيّسة. وظل على الدوام على صلاتٍ حيّة مع جاره الشمالي؛ يستأمنه، ويثق به أكتر من ثقته بالكيني أو اليوغندي..
لكن الآن دعونا نناقش الأحدث الإجرامية الأخيرة المؤسفة هناك..
ظاهريًّا مفهوم أنّ هناك ارتباط مباشر بين أحداث الجزيرة واندلاع موجات عنف ضد المقيمين السودانيين في جوبا. لكن يفوت على الناس دائما أنْ التفاعلات الشعبية وإدارة مشاعر الغضب الجماهيري لا يجري تفسيرها على نحوٍ مباشر؛ عبر القرائن الظاهرية الماثلة على السطح: “حدوث هذا.. نتج عنه حدوث ذلك”؛ إذ ثمة عوامل أخرى مُتداخلة وغير مريئة تقود إلى الحريق والانفجار.
لنسأل أولًا: من أبرز قادة الحراك الاجرامي ضد الشماليين؟ يقود الحملة التحريضية مايكل كريستوفر.. وكريستوفر من “الاستوائيين” -إنت يا العامل بتحب الجنوبيين عارف الاستوائيين ولا بتحب من طرف ساي؟- المهم ما علينا؛ الاستوائيون نخبة الجنوب المُتعلمة لكن بالمقابل لا وجود لهم داخل مراكز القوى الحديدية المسيطرة على الدولة. بيد أنّ غالبية أبنائهم من المُتعلمين التكنوقراط المشغلين للدولاب المدني أو الخدمي. والمجموعة الإستوائية تحديدًا من المجموعات المشحونة ضد السودانيين -مؤخرًا- لأبعاد تنافسية مرتبطة بسوق العمل، خاصةً في الحقل الطبي. وبات من المُلاحظ -بالأخص بعد الحرب- تسيُّد هذا الحقل تمامًا من قبل السودانيين؛ ومن الجنوب ومن جوبا تحديدًا يمكن أنْ يُحدّثك أي أحد عن أنّ المستشفيات باتت مشغولةً بالكامل بالكوادر الطبية السودانية -باستثناء كادر التمريض-.
أما عن الأسواق فقد تمت مضايقة التجار الصوماليين أصحاب النفوذ الأكبر في مجال التجارة. وربما يكون لذلك اسهام في السعي لتخريب النشاط الشمالي الواعد ضمن أدوات التنافس التدميري بين الجاليات.
وهناك بالطبع طبقة الكنسيين التي ترى في عودة السودانيين تهديدًا لمشروعهم المناوئ للأسلمة والتعريب -لا يُستبعد أنها نسقت مع كوادر من الحرية والتغيير مع ضخ للمال الإِِماراتي-. هذه الطبقة الكنسية المُتنفّذة تحديدًا خلت لها الأجواء تمامًا بغياب/ تحجيم (توت قلواك) وهو من النخب الجنوبية المُحبّة للشمال، فضلًا عن أنّه صاحب قدم راسخة في قيادة السلطة الجنوب سودانية وهو مُنحدرٌ من القبيلة النيلية الشرسة ذائعة الصيت -النوير- في التنافس القبلي المُميت مع غريمهتها اللدودة (قبيلة الدينكا). بالطبع هناك أقاويل تتحدث عن أنّ له أدوار بارزة في تجنيد النوير -وقد يُفهم ذلك في نطاق البزنس فقط دون مآرب سياسية منه-.. بيد أنّ إبعاده مُؤخرًا يُفهم ضمن ترتيبات للإحاطة بسلفاكير، وطرد العناصر وثيقة الصلة بالسودان؛ وحصره ضمن مجموعة تعمل بالكامل لصالح الخط الإِِماراتي التخريبي.
الجنوب شعب ضعيف ويبعدُ حضاريًّا عن نطاقات شمال أفريقيا خمسمائة عام -خمسة قرون- على أفضل تقدير؛ مما يعني أنّه وحكومته يفعلان بالكامل عن إرادة خارجة دون أدنى محركات داخلية. فلا داعي إذًا لاستهلاك الجهود في محاولة فهم دوافع الجنوبي أو إلقاء اللائمة عليه؛ فهو بلا دوافع أصيلة. وهو بالتهكم الشبابي المعاصر “ما فطر”!

محمد أحمد عبد السلام

Exit mobile version