ترسّخ في الذهن العام السوداني، من خلال الأفعال والأقوال، أن دولة إريتريا والرئيس أسياس أفورقي يقفان مع السودان في حرب الكرامة بصورة مشرفة، في وقت عزّ فيه النصير والحليف من دول الجوار والبعاد، وهذا موقف محمود ومشكور. ولكن، هل هذا يجعلنا نتجاهل ما يفعله أسياس أفورقي في السودان لمجرد أنه أعلن وقوفه ومساندته لنا؟ بالطبع لا. نحن السودان، دولة كبيرة لا نقبل الابتزاز ولا تنطلي علينا الحيل.
لم تكن علاقة السودان مع الرئيس الطامح المتمدد أفورقي على ما يرام دائماً، وذلك لأن الرجل يضع شرق السودان نصب عينيه. ولن أكذب إن قلت إنه مهموم بكسلا وبورتسودان والقضارف أكثر من أسمرا نفسها. هذا تاريخ من التدخلات والصراعات والتلاعب بالبيضة والحجر من أفورقي في شرق السودان منذ عهد الإنقاذ، مروراً بعهد التيه والضعف، وصولاً إلى وقتنا الحالي. وربما وجد أفورقي سانحته في الحرب الحالية.
وضعنا الحالي البائس، وموقف أفورقي الظاهري المشرف، وكل هذه التعقيدات، لن تجعلنا نصمت على ما يفعله أفورقي ويرغب في فعله بالسودان، في ظل صمت الدولة المريب والغريب.
قبل فترة قليلة، صرّح الرئيس الإريتري أفورقي بأنه سيتدخل إذا وصلت الحرب في السودان إلى ولايات الشرق! وهذا تصريح فجّ وقبيح توقعت أن ترد عليه حكومتنا، لكنها لم تفعل! ثم صرّح أفورقي مرة أخرى مقدماً عرضاً لشكل الحكم في السودان وما يجب أن يكون عليه، في تدخل سافر في الشأن السوداني، ولم يرد عليه أحد!
أما الأخطر من ذلك كله، فهو ظهور قائد قوات ما تسمى بـ”الأورطة الشرقية”، الأمين داؤود، في بورتسودان، ومن داخل قاعة جهاز الأمن والمخابرات، مما يعني أن هذا الظهور محمي ومرتب من الدولة وأجهزتها!
إن الأخطر من ظهور قوات تنتمي إلى مجموعات أو مناطق مثل شرق السودان، بما فيها من هشاشة وتفشي القبلية، هو استسهال وجود القوات خارج أطر الجيش، إلا في إطار المسؤولية العامة التي نسمع عنها هنا وهناك. وإن الخطر كله يكمن في استنهاض الشرق ومكوناته للتجييش تحت سمع وبصر الدولة! هذا في الوقت الذي كان من الممكن أن تكون كل هذه القوات تحت راية الجيش فقط! ولكن يبقى السؤال: من الذي يعبث بالسودان؟ ومن الذي يعقّد المشهد؟ ومن الذي يسعى للتحكم في المستقبل بهذا الإغراق الفوضوي العام؟
نعود إلى إريتريا وأفورقي وقوات “الأورطة الشرقية” ومؤتمرها المرعي من الدولة! هل كان هذا اللقاء الذي عقده الأمين داؤود للترويج لإريتريا ودورها وتأثيرها؟ ما الذي يجعل إريتريا تسلّح مجموعات سودانية وتوفر لها (زيتاً وعدساً وأرزاً) كما قال الأمين داؤود بأنهم حتى الآن يعتاشون عليه؟ هل إريتريا دولة قوية ومقتدرة؟ وهل السودان، الذي يسلّح الجميع ويوفر مطلوبات الدولة والحرب، لا يستطيع توفير سلاح لمجموعة تريد أن تقاتل معه؟ ما هذا الجنون؟
نرجع لما قاله الأمين داؤود من كلام خطير عن تسليحهم ووضعهم. قال: (إن السلاح الإريتري الذي بحوزتهم لا يمكن أن يوجهوه للسودان). طيب يا السيد الأمين، من الذي سألك عن السلاح الإريتري؟ ومن الذي قال لك إنك ستوجهه إلى السودان لترد عليه من قاعة جهاز المخابرات؟ ولماذا تخبر الناس أصلاً أن سلاحك إريتري؟ هل سألك أحد؟! ثم قال: (إن قواتهم تعبر عن رؤيتهم هم ولا تمثل شرق السودان كما لا تمثل أي مكون قبلي). إذاً، من أنتم يا الأمين داؤود؟ يا من تتدربون في إريتريا، وتتسلحون منها، وتوفر لكم الغذاء!؟ هل إريتريا دولة فاعل خير؟! ولمن تدينون بالولاء: هل للسودان أم لإريتريا؟!
إلى قيادة الدولة السودانية، نسألكم: ما الذي يحدث؟! هل الحرب وصمت الناس على الكثير من التقصير والتجاوزات أغراكم للاستهتار بالبلاد إلى هذا الحد؟! كيف لكم أن تسمحوا لإريتريا بتجاوزها للخطوط الحمراء حتى يظن أفورقي أنه حاكم للسودان ويتحدث عن التدخل في شرقه إن وصلته الحرب ويحدد شكل الحكم المطلوب كما صرّح بذلك من قبل، ثم يستقبل القيادات السياسية السودانية وقيادات القبائل، ويجيّش، ويسلّح، ويأمر، وينهي!
ما الذي يجعل أفورقي يفعل كل ذلك؟! هل أفورقي يحكم دولة ديمقراطية؟ هل يحكم دولة قوية؟ ما الذي يجعل قادة الرأي العام والصحافيين يحجون لأسابيع إلى أسمرا ويستمعون لأفورقي ولأفكاره في الدولة الرشيدة ويحتفون بذلك؟! لدرجة أن أحدهم كان يرتب لقيادة مشروع إعلامي إريتري موجه للسودان، وكان متواجداً في أسمرا، وبدلاً من ذلك جاء وزيراً في السودان! هل يحق لإريتريا فعل كل ذلك لأننا في حرب، ولأن إريتريا تساند السودان؟! وهل نحن ضعفاء لهذا الحد أم أن إريتريا قوية ومؤثرة؟!
بذلك، وبعد المؤتمر الصحفي للأمين داؤود، ومن قاعة جهاز المخابرات، كأن الدولة تقول لكل مجتمعات الشرق وقبائله: اذهبوا إلى إريتريا وتسلحوا منها، فهذا مسموح ومرحب به. بل تقول لكل السودانيين: تسلحوا كما تشاءون. وتقول للدول الأخرى: تدخلوا في الشأن السوداني، فهذا مسموح به.
على قيادة الدولة أن تعلم أن من لا يحترم نفسه وبلده وشعبه لن يحترمه أحد. لذلك، أوقفوا هذا العبث. ومن أراد أن يقاتل مع الجيش السوداني، فمعسكرات الجيش السوداني كثيرة ومفتوحة ومعلومة.
محمد أبوزيد كروم