فى التسعينيات، خاضت تركيا وإيران أكبر عملية مزاحمة وتنافس فى تاريخهما الحديث. استغلت الدولتان سقوط الاتحاد السوفيتى، لاقتناص النفوذ وإعادة رسم خريطة تحالفات دول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز المسلمة الجديدة ذات الامتداد الجغرافى والثقافى مع البلدين. وبينما ركزت طهران على السياسة ونشر المذهب الشيعى، لعبت أنقرة بورقة الاقتصاد. تدفق رجال الأعمال الأتراك بالأموال والمشروعات التى كانت تلك الدول فى أشد الحاجة إليها. خسرت إيران الجولة، وفازت تركيا بالنفوذ السياسى والاقتصادى، كما جرى اعتماد الصيغة التركية للأبجدية اللاتينية رسميا لدول آسيا الوسطى واستبعاد الأبجدية الإيرانية ذات الأحرف العربية.
التاريخ الإسلامى فى معظمه تنافس وصراعات وحروب بين تركيا وإيران على الغزو والنفوذ الإمبراطورى (العثمانى والفارسى)، لكن التاريخ الحديث شهد دفئًا فى العلاقات منذ قيام تركيا «الأتاتوركية» الحديثة. الدولتان كانتا عضوين فى حلف بغداد الذى ناهضته مصر الناصرية. ثم جاءت الثورة الإيرانية ١٩٧٩، لتعيد التنافس مجددا. لم تكن النتائج فوزا على طول الخط لأحدهما، بل أحيانا يكون هناك «اتفاق على التعادل». دعمت تركيا سرا صدام حسين فى حربه ضد إيران. وقف البلدان منذ التسعينيات على طرفى نقيض من النزاع الذى فجر حروبا عديدة بين أذربيجان وأرمينيا. قبل شهور، انتصرت أذربيجان ومعها تركيا، وخسرت أرمينيا وحليفتها إيران. بعد الغزو الأمريكى للعراق ٢٠٠٣، حصدت طهران النفوذ والقوة، وأصبحت «صانع الملوك» فى السياسة العراقية. عقب ثورات الربيع العربى ٢٠١١، اندفعت تركيا للتأثير وفرض النفوذ على الحكومات الجديدة. إيران اختارت الدفاع عن الأنظمة القائمة، خاصة فى سوريا، ثم شكلت محورا للمقاومة استثمرت فيه الكثير لبقاء الأنظمة ومناطحة إسرائيل وأمريكا. معهد «تشاتام هاوس» البريطانى للشؤون الدولية قدر أنها أنفقت على سوريا فقط منذ ٢٠١١، ما بين ٣٠ و٥٠ مليار دولار.
ورغم كل تلك الخلافات ظلت مصالح الدولتين متداخلة ومتقاربة. كلتاهما منزعجتان من الوجود الأمريكى بسوريا. أنقرة ترى أن دعم واشنطن للأكراد عقبة أمام جهودها لمنع فوزهم بالحكم الذاتى والانفصال. إيران لا تريد وجودا أمريكيا لا فى سوريا أو غيرها تطبيقا لشعارها: «طرد أمريكا من المنطقة». هناك اتفاق على رفض النظام العالمى الراهن. تركيا تقول إن العالم أكبر من خمسة، فى إشارة لأعضاء مجلس الأمن الدائمين، وإيران تدعو للتحول عن الهياكل الدولية القائمة وإقامة شراكة مع الصين.
لكن عالم ما بعد ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، الذى نتج عن هجمات حماس على إسرائيل وما تلاه من عدوان وحشى إسرائيلى، قضى تقريبا على قوة حماس وشل إمكانات حزب الله، وتطور إلى انهيار النظام السورى، الأمر الذى خلق مشهدا جديدا تماما. بحسب جيمس جيفرى، نائب مستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق، فإن: «كل قطع الدومينو التى تمتلكها طهران سقطت. إسرائيل حطمت محور المقاومة لكن سقوط بشار نسف المحور». إيران تنظر للمستقبل بقلق وربما بخوف. أوراقها ذبُلت. إسرائيل، التى كانت تتردد فى مهاجمتها مباشرة، تجرأت عليها. صحيفة «وول ستريت جورنال» كشفت أن مساعدى ترامب يدرسون إمكانية شن ضربات جوية وقائية لمنعها من صنع سلاح نووى، بعد تقارير تقول إنها زادت خلال الفترة الأخيرة من معدلات تخصيب اليورانيوم المطلوب لإنتاج قنبلة نووية.
طهران فى موقف دفاعى حاليا بينما حظوظ وأوراق أنقرة فى صعود. تقريبا، حلت فى النفوذ بسوريا محل إيران أيام بشار. لكى تصل إلى ما وصلت إليه، عملت تركيا بدأب لتسليح وتجهيز المعارضة انتظارا للحظة الحسم. وزير الخارجية هاكان فيدان له تصريح لافت: «تركيا قد تتأخر فى فعل اللازم، لكنها تفعله بالنهاية». أهداف أردوغان إعادة اللاجئين، وأن تكون سوريا معبرا للتجارة التركية، وأن يحارب جيشها الجديد الأكراد المناوئين له. هذه الأوراق الجديدة ستساعده فى التعامل مع إدارة ترامب ولعب دور أكبر بالمنطقة. بعض القوميين الأتراك المتشددين المؤيدين لأردوغان لهم أطماع فى سوريا. دولت بهتشلى، رئيس حزب الحركة القومية، صرح، عقب دخول المعارضة السورية حلب قائلا: «حلب تركية مسلمة حتى النخاع. التاريخ والجغرافيا والحقيقة والأجداد يقولون ذلك، وأيضا العلم التركى الذى يرفرف فوق قلعة المدينة». هل يتبنى الرئيس التركى ذلك؟. المستقبل سيجيب.
ماذا تبقى من أوراق إيران؟ سانام فاكيل، الباحثة فى «تشاتام هاوس»، ترى أن طهران ستقوم بـ«إعادة انتشار» وهو مصطلح عسكرى يعنى الانسحاب المخطط، ومحاولة الحفاظ على ما بقى من محور المقاومة والاستثمار فى العلاقات الإقليمية من أجل النجاة من ضغوط ترامب المحتملة. أما تركيا، فهناك اندفاعة لملء الفراغ الذى تركته إيران، وهناك من يبالغ، ويقول إنه القرن التركى الجديد.
عبدالله عبدالسلام – المصري اليوم