أيامُ الناس في مِكناس (01)
بصراحة وجدت في نفسي شيئًا عندما خاطبني موظف الاستقبال في القنصلية المغربية بجدة قائلا: استرح يا حاج. وكنت قدَّمت أوراقي لطلب تأشيرة دخول للمغرب. لم أدرك أن الرجل كان يخاطبني بأفضل كلمات التقدير عندهم: “يا حاج”…
سمعت في الرباط من يخاطب الدكتور المحجوب بنسعيد: يا حاج، والمحجوب ذو فراسة وظنٍّ لا يخطئ، قال لي من غير أن أسأل: من يناديك في المغرب يا حاج فقد احترمك غاية الاحترام.
هذا فأل حسن، فقد جئت إلى المغرب لكي أشارك بندوة في مكناس ببحث فيه ذكر الحج والحجيج: (أدب النادرة بين الحقيقة والتخييل كما يمثله كتاب من طرائف الحجيج).
وصلت إلى مطار الملك محمد الخامس بالدار البيضاء بعد طيران سبع ساعات من مدينة جدة. خرجت من مبنى المطار وكنت أخشى برودة الطقس ونحن في شهر نوفمبر لكني فوجئت باعتدال الجو. سألت عن المسجد كي أصلي الفجر فدلوني على مصلى صغير عبارة عن سقيفة تكفي لصفين من المصلين، ورأيت حجرا موضوعًا في المقدمة عرفت أنه للتيمم. هذا أول انطباع عن هذه البلاد واعتدالها: اعتدال في الجو واعتدال في النموذج المغربي للتدين.
نسمع بالوسطية فنراها متجذرة هنا… ترى ذلك في لافتات الشوارع المكتوبة باللغتين العربية والأمازيغية بخطوط وضيئة غير مبهرة، متوسطة الأحجام لا هي بالكبيرة جدا ولا بالصغيرة، وتحس بذلك في المظهر العام في الشارع، وإن كنت ترى في الطرقات وسير العربات “سلوكات غير مسؤولة “.
ولعل قيام هذه الندوة عن (الفكاهة والضحك) من أقوى علامات الاعتدال.
عندما كنت أتفاكر مع الدكتور رضوان بوخالدي الأستاذ بجامعة مولاي إسماعيل في كيفية حضور الندوة كان في ذهني أن موضوعها موضوع انصرافي، ولا سيما في زمان الحرب والنزوح هذا. ولكن أليس زمان الحرب والنزوح أدعى للتنويع وكسر الرتابة أو بتعبير أحدهم: تعليل النفس ببعض الأنس.
في الجلسة الافتتاحية للندوة استشهد الدكتور مصطفى الغرافي بفقرة للطيب صالح من عرس الزين: “يولد الأطفال فيستقبلون الحياة بالصريخ، هذا هو المعروف. ولكن يُروى أن الزين، والعهدة على أمه والنساء اللائي حضرن ولادتها، أول ما مسَّ الأرض، انفجر ضاحكاً، وظل هكذا طوال حياته”.
تكلم الكثيرون عن أهمية الضحك، يستدلون عليها بأقوال الحكماء والفلاسفة: قال سيدنا علي بن أبي طالب: “من كانت فيه دعابة فقد برئ من الكبر”. ويكتب الدكتور محمد عفط في بحثه المقدم للندوة أن النوادر ميل طبيعي في الإنسان، وأن اللجوء إليها يتوافق مع الطبيعة الإنسانية التي لا تقبل قسرها على نمط واحد”…
وينقل د. عفط عن أبي إسحاق ربطه الميل إلى الضحك والمفاكهة ببديع خلق الله حيث يقول: “الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، فعرفنا بلذة الفرح شدة الترح، وبحلاوة الحياة مرارة الوفاة”.
وللنادرة وظيفة مهمة هي التفريج عن الكربات. جمع أحد المؤلفين من المغرب أخيرًا كتابًا عن نوادر أهل المغرب سماه (نوادر الأكياس في تفريج كربات الناس)، ولعله أراد أن يثبت وجود الظرفاء أيضًا في تاريخ الأدب العربي بالمغرب، إذ المشهور أن المشرقيين وحدهم من حازوا قصب السبق في كتابة النوادر من أمثال الجاحظ وأبو حيان التوحيدي وابن قتيبة والأبشيهي صاحب المستطرف من كل فن مستظرف.
وأشار الدكتور رشيد وديجي إلى أن النادرة تمثيل سردي لمضمون اجتماعي وأخلاقي يهدف إلى ترسيخ السلوك السوي في المجتمع… بعبارة أخرى تكمن أهمية النادرة، بوصفها أداة لإصلاح النفوس والمجتمع وترسيخ القيم النبيلة والفاضلة في المجتمع… وتخليصه من عيوبه ونقائصه، عن طريق تكثيف الشعور بالازدراء والسخرية من الموضوع المسخور منه”.
ولا أريد الاستطراد بأكثر من هذا في الحديث عن الندوة، لكن أختم بنقطتين وردتا في بحث الدكتور عبد الرحيم وهابي: الأولى عن الموقف الديني المتشدد الذي يحظر الضحك في المسيحية على اعتبار أن المسيح عليه السلام لم يضحك قط، ويقارن ذلك بالإشارة إلى ضحك النبي صلى الله عليه وسلم ومزاحه ومزاح الصالحين ونوادر الفقهاء والعلماء المسطورة في كتبهم. والنقطة الثانية في أن الضحك مما تميز به الإنسان دون الحيوان.
صحيح هل رأيتم حيوانًا يضحك أو يبتسم؟!
(نتابع)
بقلم: عثمان أبوزيد