رأي ومقالات

قصف المدنيين ومصارع الظالمين

الجريمة الوحشية التي راح ضحيتها 65 مواطنا بريئا في محلية كرري، في العاشر من ديسمبر الجاري، تشكل جريمة حرب وضد الإنسانية، وتمثل حقدا مبرمجا ومنهجيا على إنسانية المواطن السوداني، والإزدراء المستدام عليه وتعكير صفوه من قبل الميليشيا المتمردة والمارقة والخارجة عن حدود الشرائع الدينية والإنسانية، والقوانين الوطنية والدولية، والمستقوية بأجندة الاستعمار الجديد، لاستهداف الموارد وسيادة البلاد، وتفريغها من أهلها، وفرض العملاء وتسييدهم على الأصلاء من أبناء الوطن بالقوة الغاشمة.

فلا صلة لما يجري بالديمقراطية، ولا باحترام حقوق الإنسان، ولا حكم القانون، ولا تستند على أي مسوغ أخلاقي، ولا سند شعبي قاعدي، لا سياسي ولا ديني. بل تتنافى جميع أفعالها الناشزة مع كل تقاليد ومثل وأخلاق أهل السودان الموروثة بمقومات التمدن البشري، من لدن الحضارة النوبية في كرمة وما حولها، والتي تمتد جذور العمران الحضري فيها إلى العام 9500 عام قبل ميلاد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.

فمن تلقاء ذلكم يتضح أن القصد من هذا السلوك المنهجي الإجرامي واللإنساني المنبوذ، هو تشريد المواطن من مسكنه وأرضه، بعد نهب ماله. ومن تلقاء ذلكم تبديد جهود الوطن في استكمال مسيرة البناء والعمران والتحضر، وإشغاله بمهددات الاستقرار ومنهجية الدمار. وبالتالي استدرار واستنتاج نسخاً مستحدثة في مسلسل التخلف الإداري والسياسي المرسوم لإستهدف السودان ومن لدن الغزو العسكري المسلح عام 1898م بقيادة الجنرال كتشنر، الذي نتج عنه تغيير النظام الوطني القائم بعد تحرير الخرطوم، وتصفية الدولة الوطنية التي تشكلت أيام الثورة المهدية الشعبية الشاملة، التي تفوقت على التسلط الغاشم والظلم الجاثم وأنهت طغيان الإحتلال في يناير عام 1885م.

إزاء هذا الراهن الأسيف الذي أعدت أجندته ومخططاته مسبقا لإستهداف الوطن والمواطنين، يتعين أن تتعاظم وتكثف جهود النيابة العامة، ووزارة الخارجية، ومنظمات حقوق الإنسان، والمنظمات المدنية والحقوقية، ومنظمات المجتمع المدني، وتنشط فعالياتها على كافة الفضاءات الوطنية والإقليمية والدولية، وبنسق منتظم ومتسارع، لكشف وتوثيق وضبط كافة الجرائم، والتنسيق مع المنظومات العدلية والحقوقية والإنسانية التي يحظى السودان بعضويتها، لإنصاف الضحايا والمظاليم ومعاقبة المجرمين.

فكل من تثبت مشاركته في هذه الجريمة، أيا كان، وفي أي مكان وجد، فهو مجرم وخائن لوطنه ومعاد لشعبه، يجب أن يتم استجوابه وتقديمه للمحاكمة، لتعزيز حكم وسلطة القانون، وحماية سيادة الشعب، ومكتسبات الوطن.

إذ يتعين تكثيف التنسيق مع الدول الشقيقة والصديقة ودول الجوار وعلى كافة الأصعدة، وكذلك تنشيط التعامل مع الشرطة الدولية (الإنتربول) وشرطة وأجهزة ومنظومات الأمن الوطني الإقليمية، وفي كافة الدول الأفريقية والعربية، للقبض على المجرمين الفارين من العدالة. إذ أن الاختصاص والولاية القانونية ههنا تستند على جرائم جنائية موثقة ضد الإنسانية، وجرائم حرب منصوص عليها في مواد القانون الجنائي الدولي، وقوانين الحرب، ولها سوابق دولية معتبرة، تم التعامل معها منذ انعقاد محاكمات نورمبيرج ضد النازيين والفاشيين، ومحاكم طوكيو ضد مجرمي الحرب اليابانيين عام 1946م، والتي تولتها محكمة جرائم الحرب في الشرق الأقصى في طوكيو تحت إشراف القضاة الأمريكيين والبريطانيين وممثلي الدول ضحايا الإعتداء، وتحت رعاية الجنرال الأمريكي دوقلاس ماك آرثر، قائد عام جيوش الحلفاء في الشرق الأقصى، وكان هو الحاكم العسكري على المنطقة.

فالتعريف المتوافق عليه عالميا لجريمة الإرهاب، هو الفعل العنيف الذي يستهدف المدنيين، وبقصد تحقيق أغراض وبلوغ أهداف سياسية، وهو ما ينطبق على أفعال وسلوك الميليشيا منذ 15 أبريل 2023م واحتلال التلفزيون القومي، وضبط بيانها المعد لإعلان استلام السلطة بالقوة المسلحة، إثر المحاولة الفاشلة لتصفية واغتيال القائد العام للجيش الوطني في محيط القيادة العامة.

ومن تعبيرات الطغيان والإرهاب السياسي، الإمتثال والتماهي مقولة: “من ليس معنا فهو حتما ضدنا” والتي ينعق بها مؤيدو الميليشيا المغيبين ومن حملة الجوازات الأجنبية وعملاء الاستعمار الجديد في الشتات، الذين يناصبون كل من لا يولغ ويتماهى مع ضحلهم الثقافي ونزقهم الإرهابي العداء.

وليس ذلك بغريب عند العلم بأن هذا السلوك يستند على المبادئ الموروثة من دستور حكم آل فرعون الطاغوتي، التي ذمها القرآن الكريم، الذي يتلوه المسلمون في صلواتهم صباحا ومساء، تحذيرا لهم من اقتراف فعاله، فيبوءوا بجليل إثمه المنكور، فتحل بهم عقوبته. وذلك من تلقاء توعده قومه باتباعه، دون رأي ولا مشورة ولا تردد، أو ملاقاة مصيرهم سحقا وقتلا وذبحا: “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”.. هذا مشهد أليم من مسارح الدكتاتورية السياسية في القرون الأولى، والتي كانت تستهدي بتأليه الأهواء وتعظيم الشخوص ونصب التماثيل والأرجوزات، وفرض الأيدلوجيا بالقهر السياسي، والدعوى لتعظيمها في نفوس المحكومين المستضعفين لمقامات تتسامى على مواريث القيم الفاضلة ودين الحق والحكم الرشيد.

ولقد سطرت كتب التاريخ القانوني المعاصر، وأضابير المحاكم الدولية جرائم مماثلة اقترفها سلف هؤلاء المجرمين في حق التحضر والإنسانية، من لدن أدولف هتلر، وموسوليني، وبول بوت، الذي ارتكب مجازر في كمبوديا لإعلاء وفرض مذهبه الشيوعي القهري الدموي المعروف بمصطلح: ‘الخمير الحمر’ Khmer Rouge والذي أصبح العلامة الفارقة للحزب الشيوعي الكمبودي، الأكثر دموية في تاريخ القهر منذ مجازر لينين واستالين. فراح ضحية جرائمه ما يفوق المليونين من المواطنين خلال الأعوام 1975 – 1978م، يشكلون أكثر من 25% من إجمالي السكان.

كذلك تندرج في سلك الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب المماثلة للحالة السودانية، على مستوى القارة الأفريقية، ما اقترفه شارلز تيلور، حاكم ليبريا الأسبق خلال الفترة 1997 -2003م والذي أفنى مئات الآلاف من شعبه خلال سني الحرب الأهلية، فحكم عليه بخمسين عاما من السجن للجرائم المتعددة التأبدات. ومنهم فوداي سينكوح، رفيق تيلور في سيراليون، والذي كانت جرائمه أشبه بمنهجية الميليشيا اليوم من اغتصاب وقتل المدنيين والنهب. فوجهت له تهم بنفس جرائم رفيقه المدان، وذلك قبيل وفاته أثناء التحقيق، فانتقل لحكم العدل الإلهي الذي أعد لأمثاله، والقائمة تطول..

إزاء هذا الاستهداف المنهجي للأرواح، بعد نهب الممتلكات والتشريد ، والذي تكرر في كل بقاع السودان، يتعين على السلطة القائمة بذل أقصى درجات الحماية والدفع، واتخاذ أقصى تدابير الحذر والتأمين، بدءا بتطهير الصفوف من خونة أوطانهم وعقيدتهم والمتنكرين لأخلاق أهل السودان من العملاء المارقين المندسين في الصفوف، الذين باعوا دينهم ووطنهم وضمائرهم بثمن بخس، دراهم معدودة، ليزودوا المرتزقة المجلوبين والحاقدين، بإحداثيات قتل المدنيين. فهؤلاء شركاء في الجريمة، وتتحقق عقوباتهم في المحاكم الجنائية بذات مواد تجريم رصفائهم القتلة والنهابة والإرهابيين.

كذلك ينبغي استنفار كل المواطنين، خفافا وثقالا، وفي كل مربوع وحارة ومحلية، للدفع عن أنفسهم ووطنهم، وممارسة حق الدفاع المشروع في الدين، وفي كل المواثيق الدولية. لأن الاستهداف والقتل الواقع عليهم لم يعد يستثني أحدا منهم. فالكل أضحى هدفا في مرمى الإرهاب والعمالة والخيانة الوطنية.

بيد أنه يتعين استصحاب وعد الله الموثوق، الذي حرم الظلم على نفسه، وحرمه على عباده، وتوعد الظالمين بالهلاك والعذاب المهين، وبالخزي في هذه الدنيا، والتأبد في جحيم الآخرة؛ كما وعد بنصر المظلومين، مهما طال ظلام الاستعلاء وطغيان المجرمين المستكبرين. فلكل ظالم نهاية، ولكل طاغية قصة ورواية، في سجل التاريخ الذي في صفحاته كل صغير وكبير مستطر.

فما حدث في سوريا بعد 54 عاما من الطغيان وسريان التخويف، وتعدد أجهزة القمع، وكتم الأنفاس والمظالم، والنزوع للإستقواء بالأجنبي، وحكم الحديد والنار، ثم اندحاره مذموما مخذولا بلا نصير، يظل سيرة معلمة، وعبرة مؤثرة لكل عاقل. وتظل قصة سوريا تجسيدا واثقا لقوله تعالى: “لنهلكن الظالمين” الآية 13 – إبراهيم. إذ هي تنزلات وعد صادق في كتاب من خلق الأرض والسموات العلى. فمن سلك طريقهم واتبع مسارب ظلمهم يلقى المصير الذي أدركوه: “فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا”..الآية ٥٢ – سورة النمل.

نسأل المولى الحق العلي القدير أن يهب الشهادة للضحايا الأبرياء المظلومين، وأن ينتقم من الظالمين والطغاة المستقوين بالمال الحرام وبالفكر الضال، في الحياة والدنيا ويوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

د. حسن عيسى الطالب