ربما هي أقدار الله التي لا نملك تجاهها إلا التسليم، أن يصبح (القبر) رفاهية و(الكفن) أمنية لشعب السودان وهو يواجه الموت المجاني في أحلك سنوات البلد
المواطن المكلوم الذي هاتفه صديقنا الحبيب الكاتب الصحفي ضياء الدين بلال كان قد تجاوز وجع الفقد وطار فرحاً لمجرد أنه (دفن والدته) وسترها ،نهض صوته جزلاً وهو يرد على مواساة أبو رنا: “الحمد لله، الحمد لله، دفناها… أمي دفناها” بدا الرجل وكأنه يبث (خبراً سعيداً) جمعه من ركام حزنه الممتد في أفق المسافة بين أسى فقده الجلل وفرحته بأنه وجد قبراً وارى فيه جثمانها العزيز، كان الصوت يحث ضياء -فيما يبدو- على أن يقول له “مبروك” بدلاً من “البركة فيكم”
صديقنا الذي اغتالته رصاصات المليشيا الغادرة مكث في مكانه لثلاثة أيام، في انتظار من يستر ميتته ويحمل نعشه إلى (شبر في المقابر)، وقد عزّ الحصول على (كفن من طرف السوق). بعد مضي الأيام والليالي، أنجزت أيادي بعض الخيرين حفرة في فناء داره ليوارى فيها الجسد الفاني
كثير من الأجساد التي رحلت في أزمنة الموت بـ(الجملة والقطاعي) لم تجد حظها من (ماء البرود) ولم تزرها (رائحة الحنوط)،تحولت بيوت السودانيين في لحظات الحرب الساخنة إلى مقابرهم. المليشيا المجرمة كانت تستهدف مواكب المشيعين و(تقتل القتيل وترفض دفنه)، محظوظ من يجد من يوسده حفرة (باردة أو ساخنة)، ويهيل عليه التراب ويرفع له أكف الدعاء بالرحمة والغفران
الوصول إلى المقابر محنة عايشتها أسر عديدة عزّ عليها الطريق إلى صراط الآخرة و(جبانة الموتى). فاستسلمت لقدر الدفن بما تيسر، في الشارع أو فناء الدار، رأينا كيف تحولت ميادين كرة القدم والمدارس إلى (مقابر طوارئ)، يتلصص زوارها لدفن موتاهم فيها بعيداً عن أعين المليشيا التي طاردت السودانيين أحياءً وأمواتاً. حتى كبسولات بسط الأمن الشامل، حوت جدرانها مدافن لعزيزين استوجب سترهم إيداعهم باطن الأرض في أي مكان لا تطارده أنوف الكلاب التي التهمت ما شاء الله لها من جثث السودانيين الملقاة في الشوارع
أوجعني مقال كتبه الأخ يوسف عبدالمنان في هذه الصحيفة، يطرح خلاله عطاءً لـ(توريد أكفان)، عزّ الحصول عليها بعد مجزرة الهلالية التي استخدم أهلها صفق الأشجار لستر قتلاهم ممن حصدتهم آلة المليشيا المجرمة
يجدر بالمواثيق الدولية أن تتحسس نصوصها بحثاً عن قوانين لـ(حقوق الإنسان الميت)، من واقع تجربة الحرب في السودان ،وعليها أن تؤرخ لانتهاكات موغلة في الوحشية اقترفتها المليشيا طالت (أموات السودانيين)، فللأحياء ربٌّ يحميهم
نسأل الله أن ينزل على شعبنا صبراً يكفكف حزنه، وأن يربت على قلبه بما يخفف المآسي ويذهب الحسرات، وأن يطهّره للأبد من رجس الجنجويد الذين قتلوه حياً وميتاً
لن يحتاج السودانيون إلى عبارة “ينتهي العزاء بانتهاء مراسم الدفن”، إذ لم يعد هناك (دفن ولا عزاء) في بلاد عانى شعبها (الموت الجماعي)، وعزّت عليه حتى أمنية صلاح أحمد إبراهيم في “نحن والردى” -وعلى زهدها-:”كفن من طرف السوق.. وشبر في المقابر”.
*✍️محمد عبدالقادر
رئيس تحرير صحيفة«الكرامة»