تواترت في الخطابات السياسية خصوصا بعد ورشة جنيف التي أقامتها منظمة فرنسية أوروبية تسمى promediation أحاديث كثيرة عن السياسة السودانية، غالبها مكرر ونمطي ويفهم بلغة الخطابة والهتاف السياسي بأكثر من اللغة الموضوعية، لكن في ثنايا تلك الأحاديث برز سؤال الإسلاميين. دعوني إذن أقول فيه بعض النقاط والأفكار التي يمكن أن تتوسع لاحقا لورقة أطول وأكثر دقة.
إن عملية (أشكلة الإسلاميين) أي وضعهم بين قوسين كما يظهر في أوراق المنظمات والنظر لهم كمشكلة وبالتالي طرح أسئلة مثل: كيف نتعامل معهم؟ من هم؟ من أين جاءوا أصلا؟ ماهي معايير قبولهم أو رفضهم؟
هذه العملية التي أسميها (أشكلة الإسلاميين problimize of Islamists) هي نوع من التنميط المنحاز وغير البرىء والمضلل، هو تنميط يصرف النظر عن المشكلة الحقيقية التي أجدها في السياسة والمصالح والاقتصاد السياسي. لكنني اليوم لست بصدد مناقشة ماهي (الإشكالية الحقيقية) والتي تستحق أن نضعها بين قوسين، لكنني هنا بصدد المضي قدما لخوض مسألة الإسلاميين المزعجة هذه.
للأديب السوداني الطيب صالح قصة شهيرة بعنوان دومة ود حامد يقول فيها:
“لن تكون ثمة ضرورة لقطع الدومة. ليس ثمة داع لإزالة الضريح. الأمر الذي فات على هؤلاء الناس جميعا أن المكان يتسع لكل هذه الأشياء، يتسع للدومة والضريح ومكنة الماء ومحطة الباخرة.”
القصة أعلاه كانت عن قرية صغيرة تقدس الدومة والضريح لزاهد صالح غريب جاء لقرية ود حامد، لكن وللأسف أي مشروع جديد جاء على القرية أصر على أن يكون مكان الدومة والضريح تحديدا، فقد طلب الانجليزي أن تكون مضخة الماء محل الضريح وأهل القرية رفضوا، ثم بعد سنوات طلب موظف الحكومة الجديدة ذلك الأفندي موظف حكومة ما بعد الاستقلال أن تكون محطة البواخر محل الدومة والضريح أعلى التلة، رفض أهل القرية وعنفوه بشدة، وبقيت القرية إثر ذلك بلا محطة وبلا مضخة.
السؤال هو:
هل المكان يسع الجميع؟ هل المكان يسع التحديث والأصالة. من هنا تحديدا نشأ الإسلاميون في السودان، وبذلك السؤال تحديدا يمكنك أن تفهم جوهر قضيتهم.
ولكن وحتى لا تفهم يا عزيزي أنني أدافع عن أشكالهم التنظيمية دعني أقول لك: إن ذلك التنظيم الذي حاز على السلطة لأعوام طويلة، وتلك القيادات التي في غالبها غير مدركة للواقع وترغب في السلطة والتأثير والقيادة اليوم قبل الغد، هي قيادة لا تفهم عن (دومة ودحامد) ولا تنشغل بالمكان، إذا ما كان يتسع لبابور الماء مع الدومة أو لا. هم في حالة قد استنفذت أغراض وجودها تماما.
لكن من الذي يمنع التاريخ من الحركة؟ والتجديد الحتمي أن يحدث؟
هو ذلك المتطرف قصير النظر الذي لن يفهم أن المكان قد يسع الحداثة مع الأصالة، وأن بابور الماء ممكن مع الدومة. هو ذلك المثقف قصير النظر المتطرف الذي يحب أن يرى نسخة معينة من الإسلاميين دون غيرها، فوجودها يمنحه الحياة وأسباب البقاء. هل فهمتموني؟
دعوني أوضح أكثر وبطريقة مباشرة، إن الإسلاميين اليوم في السودان ليسوا هم مشكلة، وليسوا قضية خاصة توضع بين قوسين. لذلك كفوا البحث عن (إسلاميين صالحين) وفق معاييركم ضد (إسلاميين طالحين) تناصبونهم العداء. إن المسألة هنا هي حول صراع فكري عميق:
أي طريق للحداثة سنتخذ؟ السيادة والهوية والعدالة والكرامة؟ أم التبعية والاستغراق بلا حدود في ألاعيب الاستعمار الجديد؟ لذلك عليكم أن تعلموا أن هذا التيار باق للأبد ما بقيت قضية دومة ود حامد.
عودة لورشة Promediation فإني أقول للمنظمة، هناك فرصة للحوار العميق ولكن إحذروا من غالب النخبة التي حضرت معكم. غالبهم سياسيون كما قال عنهم منصور خالد: سياسة بلا قراءة هي تهريج فوضى. هذه فوضى كبيرة ظهرت في بيانكم الختامي الكارثي. ولكن إذا أردتم الحوار حقا وكنتم مدركين لخطورة الواقع فمرحبا، وحينها سنثبث لكم أن هذه البلاد لن تدخلها حداثة بلا أصالة، ولن يكون فيها بابور ماء بلا ضريح، ولن يكون فيها المصنع دون المسجد.
لن يكون صدقوني.
هشام عثمان الشواني