السودان وانهيار دوائر النفوذ

استطالت حرب الكرامة .. أو المحاولة الفاشلة لاختطاف الدولة السودانية بواسطة مليشيا عرب الشتات المسنودة بوكلاء الصهيونية والماسونية والإمبريالية حيث تدخل هذه الحرب الآن شهرها العشرين ..

هوجمت الدولة السودانية في قلبها الحصين وقدس أقداسها وفي أعتى حصونها حيث استولت المليشيا على القصر الجمهوري وهو رمز سيادة الدولة ورمز عزتها ويرفرف فوق ساريته علمها. ولولا لطف الله لكادت المليشيا أن تستولى على قيادة الجيش وهيئة أركان قواتنا المسلحة.

اجتاحت مليشيا العطاوة وعرب الشتات القرى والحضر فسفكت دماء السودانيين التي جرت أنهاراً وروت الأرض السمراء المعطاء .. ونهبت الأموال وهتكت الأعراض وبِاعت حرائرنا سبايا في دول الجوار الغربي التعيس المتربص بنا ..
فلم حدث ما حدث ؟
ومن المسئول عمّا حدث؟
وكيف نعالج الأسباب التي أدت لهذه الخروقات العظمى لسيادة الدولة السودانية وعزة أهلها وكرامتهم ؟
وكيف نمنع حدوث مثلها في المستقبل ؟
وكيف نستعيد دولتنا وكرامتنا المجروحة ؟

وللإجابة على هذه التساؤلات فإن السبب الأساسي في كلّ ما حدث هو ضعف الدولة السودانية وهشاشة تكوينها. المسئولية عن هذا الضعف والهشاشة مسئولية تراكمية بطبعها منذ استقلال السودان في العام ١٩٥٦ ولكن ينوء بحمل جلها قيادة الدولة الحالية وتحديداً المكون العسكري في مجلس السيادة وعلى رأسه الفريق أول عبد الفتاح البرهان قائد الجيش .. ويشمل هذا فشل الاستخبارات العسكرية وجهاز المخابرات في التعرف على مخطط المليشيا للاستيلاء على الدولة السودانية وبالتالي فشل الاستخبارات وأجهزة الأمن في تجنيب بلدنا لهذه الحرب الضروس وإفشال المخطط الآثم.

وكذلك من أسباب فشل الدولة السودانية هو ضعف الذمة المالية لكثير من الذين يجلسون في مراكز النفوذ مما سهل على قيادة المليشيا المترعة بالأموال من السيطرة علي مفاصل السلطة في الدولة فاشترت ولاء ضعاف النفوس هؤلاء بتسكينهم في الوظائف التنفيذية العليا في غياب الأجهزة التشريعية والرقابية للدولة مما جعل قائد المليشيا ذا السهم النافذ والقول الفصل في كلّ تعيينات رجال الدولة النافذين ولا يملك جهاز الدولة سوى التأمين على قراراته .. أو كما أوضح مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور وقائد قوات حركة تحرير السودان وقد اصطف مع شرعية الدولة في موقف تاريخي ستحكي عنه الأجيال..

أما معالجة أسباب ما حدث ومنع تكراره واسترداد الكرامة الوطنية المجروحة فيمكن أن يتمّ كل ذلك بتقوية الدولة السودانية وإعادة بنائها فضعف الدولة السودانية هو السبب الرئيسي والداء العضال وما حدث من محاولة استيلاء على السلطة واستباحة الدولة والشعب وممتلكاته ما هي إلا أعراض لهذا الداء وسنفصل كلّ ذلك في مقالات لاحقة.

وقبل أن ندلف إلى معالجة أسباب ضعف الدولة السودانية فيجب أن نفهم كيفية تتشكل دوائر النفوذ والقوة والتي تعمل جميعها على حماية الدولة أيّ دولة وبالأخص قلبها النابض ..
وهذه الدوائر تتميز بأنها متراكبة كقشر البصلة: حيث تبدأ الدائرة الخارجية وهي دائرة النفوذ الخارجي الذي تبلغ أعلى درجاته في الدول التي تملك حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي وهي دول نافذة تؤثر في القرارات الدولية والأممية ثم تتدرج إلى الدول ذات النفوذ في المنظمات الدولية والإقليمية حتى تصل إلى الدول ذات النفوذ على جيرانها .. والجدير بالذكر أنّ دائرة العلاقات الخارجية هي أضعف دوائر نفوذ دولتنا السودانية ولا نملك فيها حالياً أيّ رصيد يذكر.

الدائرة الثانية هي دائرة النفوذ الاقتصادي ومثاله على المستوى الدولي هي الدول ذات الاقتصاد القوي (مجموعة الثماني ومجموعة العشرين) وعلى المستوي الإقليمي نجد مجموعة دول الخليج وعلى المستوى القاري نجد ما كان يعرف بالنمور الآسيوية وحالياً مجموعة البريكس وتشمل الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وقد انضمت لهذه القائمة دولة الأمارات ومصر وإثيوبيا وإيران في العام ٢٠٢٤.

والسودان ضعيف اقتصادياً رغم ثرائه من الموارد الطبيعية وموقعه الاستراتيجي وذلك بسبب فشل نخبنا وأنظمتنا المتعاقبة في بناء منظومة اقتصادية قوية وتكالب النخب وصراعها المزمن حول النفوذ والسلطة وإن جاء ذلك خصماً على مصالح الدولة إضافة إلى إذكاء هذا الصراع بالتدخلات الخارجية من الدول الطامعة في المنطقة ودول الإقليم والمجتمع الدولي ..

الدائرة الثالثة: دائرة النفوذ الرابعة: هي الخدمة المدنية والتعامل الحياتي اليومي من تجارة وأرزاق وخدمات تحت كنف الدولة وسيادتها وقوانينها المنظمة للحياة والتي تفصل بين الخصوم وقد صار كل ذلك أثراً بعد عين في كثير من ولايات وسط السودان وكل ولايات دارفور (تسع من مجموع ١٧ ولاية). فقد تعطلت دواوين الدولة والمصارف والمدارس والمستشفيات.. وأغلقت الجامعات وأُحلّت امتحانات الشهادة السودانية وتعطلت مصالح الناس تماماً وانهارت هذه الدائرة من نفوذ الدولة ..
كقصر من الرمال وصارت سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً.

الدائرة الرابعة: وهي الالتفاف الشعبي حول المصالح العليا للدولة ووجود المؤسسات الشرعية المنتخبة التي تعبر عن الشعب وتطلعاته وسيادة القانون والتمثيل النيابي وهذه أيضاً من الحلقات الضعيفة في الدولة السودانية وأبرز ما يدلل على ضعف هذه الحلقة حدوث الانقلابات العسكرية المتكررة التي تعقبها ثورات شعبية وغالباً ما تخرج تلك الثورات عن مسارها بسبب صراع الأحزاب المؤدلجة التي تخترق القوات المسلحة وأخيراً برزت ظاهرة نشوب الحركات المسلحة لتي تستقوي بالدول الأجنبية ذات المطامع في السودان ..

ودخل السودان في دورات مفرغة وهي من أشد الأمراض فتكاً وأكثر العوامل إضعافاً لبنية الدولة السودانية، خاصة الحروب الأهلية المتناسلة والتي تتسبب في تدويل النزاعات السودانية حتى صارت صراعات السودان بنوداً راتبة في اجتماعات مجلس الأمن الدولي، ونتج عن ذلك التدخل في سيادة الدولة السودانية عبر القرارات الأممية وبعثات حماية المدنيين استنادا على البابين السادس والسابع من قوانين الأمم المتحدة التي تتيح للمنظمة الدولية فرض الحماية الأممية

ومما يجدر ذكره أنّ السيد الدكتور عبد الله حمدوك رئيس مجلس وزراء السودان الانتقالي الذي استقال من منصبه في يناير من العام ٢٠٢٢ يسعى حالياً وبشدّة لفرض حظر طيران على الجيش السوداني حتى يتسني لحلفائه في المليشيا المتمردة التقاط أنفاسهم من هجمات الطيران الحربي السوداني وحتى تحافظ المليشيا على مكتسباتها الحالية على الأرض ..
وليست هذه هي المرة الأولى التى يسعى فيها د. حمدوك لاستصدار قرارات أممية من غير تفويض شعبي أو برلماني فقد تقدم في يناير من العام ٢٠٢٠ بطلب بعثة حماية أممية لكامل التراب السوداني من غير مشورة شركائه السياسيين. في المرحلة الانتقالية.

أما دائرة النفوذ الخامسة: فهي القوات المسلحة السودانية والتي ما زالت تحاول بكل جهدها السيطرة العسكرية على تمرد المليشيا الذي يقترب الآن من العامين وتتقدّم ببطء شديد وذلك بسبب ضعف الجيش السوداني الهيكلي والبنائي وقلة قوات المشاة والقوات المساندة بالرغم من تحسن أدائه مؤخراً بعد نجاح الاستنفار العام وإدخال بعض الأسلحة النوعية في المعارك وازدياد قوة سلاح الطيران.

في ظل وضع الجيش الذي كان سائداً في أبريل ٢٠٢٤ تمكنت المليشيا من الاستيلاء على قيادة خمس فرق للجيش السوداني بوسط وغرب البلاد واستولت على مصانع الأسلحة ومجمعات الصناعات الدفاعية واستطاعت تعطيل قوة سلاح المدرعات ومحاصرة سلاح المهندسين والقيادة العامة لشهور طويلة ومحاصرة جميع مقرات الأسلحة ومعسكرات الجيش واستولت على مطار الخرطوم المدني والعسكري ومنعت الملاحية الجوية من وإلى العاصمة الخرطوم داخلياً وعالمياً وعطّلت أجهزة الرصد والحماية الجوية مما أدّى لإغلاق المجال الجوي ثم عودته الجزئية حالياً في المجال الشرقي.

دائرة النفوذ السادسة: للدولة هي أجهزة الأمن والاستخبارات ومنظومة المعلومات الاستراتيجية وقد رأينا كيف تمّ حلّ هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن وكان هذا الحدث الذي أدّى للانقضاض على الدولة السودانية فدائرة الأمن دائماً تكون أقوى الدوائر في الدول الضعيفة فعند انكسارها تسقط الدولة وتتفتت ..

وهذه هى المرة الثانية التي يتم فيها حل وتذويب جهاز الامن السوداني فقد كانت المرة الأولى عقب سقوط نظام جعفر نميري في العام ١٩٨٥.

وتبين لنا لاحقاً أنّ المليشيا قد اخترقت جهاز الاستخبارات العسكرية فتسبب ذلك في سقوط مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة ومدينة سنجة عاصمة مدينة سنّار ودخول المليشيا إلى ضواحي العليفون وشرق النيل وبعض الحوادث المؤسفة الأخرى مثل اغتيال قائد الفرقة ١٦ مشاه بنيالا والأحداث التي صاحبت محاولة دخول المجلد وكادوقلي بجنوب كردفان وغيرها من الأحداث المؤسفة.

سيطرت المليشيا على مقرات الإذاعة والتلفزيون القومي (لم تستطع تشغيلهما) ووكالة السودان للأنباء ومقرات الوزارة جميعها بما فيها وزارة الخارجية ورئاسة جهاز المخابرات السوداني وتعطّلت كل الصحف السيّارة وصارت الدولة السودانية بكماء خرساء واعتمد السودانيون على التغطية الإعلامية المنحازة لبعض القنوات الفضائية الخليجية والبث الصوتي لناشطين موالين للجيش أو المليشيا المتمردة وقد أبلى بعض الناسطين بلاءاً حسناً في الذود عن حياض الدولة كما لعبت فضائية طيبة دوراً محورياً من مقرها المؤقت بتركيا وتمكن بعض الصحفيين من إصدار صحف إليكترونية واستطاعت قيادة الدولة بالعاصمة المؤقتة من تكوين شبكة صحفية من بعض صغار الصحفيين والصحفيات.

كما أنّ منظومة المعلومات الحيوية للدولة (سجل جهاز الأمن والسجل المدني والقضائي وتسجيلات الأراضي ودار الوثائق المركزية والمتاحف القومية والمخدمات الإلكترونية لشبكات البنوك والبنك المركزي وسجلات وزارة التعليم العام والعالي والجامعات وسجلات المرضى الخ ..) صارت كلها في مهبّ الريح عندما استولت المليشيا

على قلب الخرطوم ولست متيقناً من وجود مخدمات استرجاعية خارج العاصمة لكل هذه البيانات الحيوية.

دوائر النفوذ الرئيسية الست هذه كلها تتمركز حول قيادة الدولة وتسعى لحماية قلب الدولة الذي يضخ الحياة فيها كما يفعل القلب بالنسبة لجسم الإنسان والحفاظ على هذه الدوائر النافذة سليمة معافاة من الاختراق والعطب فيه حماية للدولة من السقوط والانهيار .. ولقد رأينا بأمّ أعيننا كيف أنه عندما انهارت دوائر النفوذ الدولة السودانية الست استهدف قائد الدولة ورأس نظامها وتعرّض لمحاولة الاغتيال فسلّمه الله ثمّ حوصر لعدة أشهر داخل مقرّ قيادة الجيش حتّى تمكن من الخروج بعد تضحيات جسام ..

وكانت محاولة اغتيال رأس الدولة وحصاره هي رأس جبل جليد الأزمة السودانية .. ورأس الدولة السودانية نفسه هو جبل جليدها.

وبإذن الله سوف تنهض الدولة السودانية من كبوتها وسوف نعيد بناء دوائر نفوذ دولتنا الست ونستعيد مجدنا وكرامة أمتنا وسنعلن انتصارنا في معركة الكرامة السودانية ..
ولا نامت أعين الجبناء ..

بابكر إسماعيل

Exit mobile version