رأي ومقالات

الحداثيون والجنجا والاستلاب العظيم

من المتفق عليه ان العلوم الطبيعية والهندسية تطورت بوتائر اسرع من العلوم الاجتماعية.
توجد عدة اسباب لهذا التفاوت في المنجز الانساني منه ان الانسانيات والعلوم الاجتماعية بطبيعتها اكثر تعقيدا وتركيبا من العلوم الطبيعية من ناحية ومن ناحية اخري لا تملك الظاهرة الاجتماعية ترف التجارب المعملية لتمحيص الفرضيات للاثبات او الضحد او القبول المشروط استنادا علي الإختبار والتطبيق العملي واعادة التجربة للتحقق.

سيولة الوضع في العلوم الاجتماعية يسهل لهيمنة الدعاية والتلاعب السياسي وكثرة الركانة والمسفسطين والمدعين وناس الغلاط والحنجرة والفهلوة.

لكن احيانا يوفر الحظ تجربة تتيح اختبار فرضية اجتماعية في ظرف شبه معملي كما خدث في الحرب السودانية. هذه الحظوظ نادرة ولكن عندما تتوفر تجربة طبيعية يتلقفها العلماء لفحص قضايا هامة ورفد النقاش السياسي بدليل علمى في قضايا هامة.

وعلي سبيل المثال، استنادا علي تجربة طبيعية، دحض علماء اقتصاد مزاعم المحافظين التي ادعت ان رفع الحد الادني للاجور يفاقم مشكلة البطالة لانه يثبط من حوافز المستثمرين بسبب ارتفاع تكلفة العمل.

قبل اندلاع الحرب بسنين ظلت هذه الصفحة تردد انه مهما كانت عيوب الدولة السودانية وجيشها الا ان الجنجويد اسوأ ولا يمكن ان نستجير من ملاريا الي مركب ايدز سرطانى.
ولكن بعد اندلاع الحرب جادلت جماعات حداثية من الليبراليين واليساريين بان لا فرق بين الجيش والجنجويد والحل في ان لا ينتصر احدهما. وهذه امنية تبدأ مشاكلها باستحالاتها فانا لا اعرف عن حرب خاضها طرفان وانتهت بفوز طرف ثالث متفرج، محايد بالقول او الفعل، لا فرق.
وفرت الصدفة تجربة طبيعية اتاحت فرصة لاختبار معملي علمي لهذه الفرضية السياسية التي تمحو الفرق بين الجيش والجنجويد.

فقد راينا الملاييين يهربون من قراهم حين يكتسحها الجنجويد او بمجرد اقترابهم من تخومها. وفي نفس الوقت لا يهرب احد من منطقة بسبب سيطرة الجيش بل يهرب كثيرون مع اقتراب الجنجويد ليستجيروا بمناطق سيطرة الجيش.

ومع دخول الجيش مناطق كانت خارج سيطرته لم نري هروب مواطن ولا اغتصاب جماعى، ممنهج ولا سلب ولا نهب. بل سمعنا باحتفال جموع تتنفس الصعداء.

اذن هذه التجربة المعملية الطبيعية تثبت بصورة حاسمة ونهائية خطل اطروحة جيوب من اليسار والليبرال بالا فرق بين جيش وجنجويد.

وهذه المساواة التعسفية الذاهلة عن الدليل للاسف ظلت تساعد الحلف الجنجويدى باضعاف الوعي العام وتثبيط الارادة السياسية للتصدي للغزو الممول من الخارج. فالمساواة بين طرفين غير متساويين انحياز يساعد الطرف الاكثر نجاسة.

بعد ان قال الشعب كلمته بالهروب مع دخول الجنجويد والارتياح مع دخول الجيش يصير التمسك باطروحة اثبتت التجربة المعاشة خطلها الفادح دليل يعني ان المتمسك بها كائن لا تهمه البراهين القاطعة وهذا يفقده الموضوعية وفضيلة احترام الادلة العلمية. وبذا يصبح كائن مصاب بهوس ايديلوجي ينخر حتي نخاعه ويلون فكره باوهام واساطير الشريحة الاجتماعية التي انحدر منها والشلل الفكرية التي ينتمي لها.

الاستنتاج التالي ان هذا الكائن عمليا، ولو بدون قصد، لا تهمه معاناة الإنسان السوداني ولا تتدخل في ضبط بوصلة تفكيره وتموقعه السياسي.

في هذه اللامبالاة المروعة يصبح النزوح القسري للملايين والاغتصاب وفقدان ممتلاكات راكمتها أجيال، تصبح كل هذه الخسائر قضايا جانبية لا تفسد للمساواة بين الجيش والجنجويد قضية.

وبهذا تنفصل الممارسة السياسية عن حق المواطن في الحياة والامن والسلامة من الاغتصاب وتتحول الي طقوس وتمترسات ايديلوجية عمياء.

هذه لوثة تحول الكائن الي صدي شائه للكيزان فالسياسة تعني له ان ينظر اين يقف الكيزان ليقف في عكس موقفهم غض النظر عن سلامة او فساد موقفهم.

الاستثناء الوحيد حتي الان ان لا احد تخلي عن الايمان بالله لأن الكيزان يصلون له ولم يتهم كتاب الرش السريع احد بالتطابق مع الكيزان بسبب اشتراكه معهم في عبادة نفس الرب.
وكل الملاحدة الذين اعرف عنهم هجروا الايمان لأسباب فلسفية لا علاقة لها بالكيزان ولا أعتقد انهم سيعودون الي امة محمد لو قرر الكيزان تبنى الالحاد.

كما لم يتخلي كهنة اليسار عن رفض السيطرة الثقافية الغربية بسبب رفض الكيزان لها ولم نرهم يتهمون احدا بالتطابق مع الكيزان بسبب رفضه للامبريالية الثقافية والهيمنة الليبرالية.
ولذا لا أدري كيف ولماذا يتم إتهام إنسان بمساندة كيزان أو دكتاتورية عسكرية في غياب أي دليل عدا رفضه لعدوان الجنجويد الهمجي ولكن هذا هو عقل الحداثة السودانية الذي انكشفت هشاشته وكشفت معها لماذا تفوق الكيزان مرارا وتكرارا إلي عودتهم مرة الأخري للملعب غانمين بسبب سوء إدارة الفترة الإنتقالية من قبل الحداثيين وسوء رد فعلهم لحرب الجنجويد ضد الشعب.

فقدان الهوية من اعظم انتصارات الكيزان علي خصومهم الذين فقدوا القدرة على التحليل المستقل. حتي صاروا أشواه تابعة في فلك الكيزان ولا تري إن فكرها تابع يحدده موقع الكيزان.

استقلالية الفكر تعني ان يفكر الانسان ويفاضل ثم يختار ما خيره أكثر او ضرره اقل وليقف الكيزان اينما شاؤوا او ليشربوا بحر القلزم بحيتانه. حتي الان لا أفهم منطق الحياد او التساهل مع غزو همجي ممول من الخارج لمجرد ان الكيزان او الجيش ضده.

لا أعتقد بان كل الحياديين بهذه الفظاعة. فمنهم ضحايا ترومة الكيزان ثلاثين عاما إضافة الي سطوة دعاية الحلف الجنجويدى المدروسة وممولة بملاييين الدولارات.

كما ان اعتزال الحرب قولا او فعلا بلا قول يبدو كخيار اسهل علي المستوى الفردى لانه ربما يتيح التعايش مع اي اوضاع مستقبلية غض النظر عمن يفوز او يخسر في حين ان الخيار الواضح يجلب متاعب لو خسر الرهان. وحتي لو كسب الرهان لا يزال بالامكان تلبيس صاحبه اي جرائم في المستقبل قد يرتكبها جيش او اخوان او بوكو حرام لمجرد وقوفه ضد عنف همجى ممول من الاجنبي.

وهذا ليس بخيال منا فهذه الادانات في جرائم الآخرين المستقبلية قد تم صرفها في الاسابيع الماضية. وهذه سابقة اذ يتم اتهام شخص بجريمة لم تحدث بعد قد يرتكبها انسان اخر والدليل علي جرمه هو وقوفه ضد غزو اغتصابي ولا تحتاج الادانة الي اي قرائن أخري.
ولا يخلو المشهد من نرجسية فالبعض يصعب عليه تغيير موقف حتي بعد اثبات خطله بصورة حاسمة لان التراجع فيه اعتراف بخطأ التحليل والتموقع وهذا جارح للايقو.

وتتم حماية الايقو بالتمترس وصم الاذنين عن صرخات المغتصبات وبؤس النازحين الذين جردهم الجنجويد من كل ما يملكون وهو اصلا قليل ولكنه سترهم وحفظ كرامتهم.

من الواضح وضوح الشمس ان التصدى للعنف الجنجويدي وقوف في خندق الشعب بملايينه التي شردها او ابادها الغزاة ولا يمكن اتهام هكذا تصدي بأنه تطابق مع اخوان او دكتاتورية عسكرية مستقبلية الا من قبل عقل شاذ تصعب علي الكلمات الاحاطة بشذوذه ووصفه بكلمات قابلة للنشر.

اخر إشكالية في قضية الحياد في سياق اكبر تحدي مأساوى في تاريخ السودان الحديث يتعلق بالافرازات النفسية للصراع الدامى بين معسكرى الإخوان والحداثيين عبر الاجيال بداية بسوح الجامعات ليواصل الخريجون الصراع حول السلطةوالنفوذ الاجتماعي بعد التخرج او المخارجة من الجامعة.

خاض الإخوان الصراع تحت راية لسان حالها ان رفعت العناية الالهية عنهم القلم واعفتهم من قيود الاخلاق لانهم اتوا لنصرة الرب وربط الارض بأسباب السماء.

وخاض الحداثيون الصراع تحت شعار كل شئ مباح ما دامت الغاية هي هزيمة الظلامية الاخوانية. الغاية تبرر الوسيلة ولا عيب في التحالف الانصياعى مع أي قوة خارجية متوفرة من دول الغرب او الشرق او الجوار الافريقي او العربي او العبري.

امنت الصفوة الحداثية بالعمل المسلح ولكن عجزها عن حمله دفعها للارتماء في احضان اي حركة مسلحة متاحة تاتي من “هامش” او غيره فحاربت الإخوان ببندقية غيرها مثل جون قرنق ولكن قرنق استعملها ولم تستعمله.

ثم سعى الحداثيون لحرب الإخوان ببنادق الحركات العرقية والمناطقية وحاربوهم بالسطوة الكونية لليمين المسيحي الأمريكي المتطرف واموال المنظمات المشبوهة وظلم العقوبات الاحادية. تحت شعار ان التهافت والسقوط في حرب الاخوان سمو.

مع انكسار البوصلة الوطنية والاخلاقية الهادية في مشكل ما العمل بخصوص سؤال الإخوان، بان تعويل معلن ومضمر وسكوتي عن الجنجويد لتأديب الكيزان نيابة عن الحداثيين.
لم يكن هذا التعويل الاخرق مفاجئا تماما علي فداحته. فلسان المقال كان حميدتي الضكران الخوف الكيزان وهو السم الذي بعثته السماء علي قدر غداء الكيزان وهو تجلي المطلق في المقيد لتحقيق نبؤات الأستاذ محمود محمد طه والثأر ممن اعدمه او هلل لاعدامه. اما كراهية حميدتي لمصر الازهر الشريف الذي قاد الحملة ضد الرسالة الثانية للإسلام علي نهج الاستاذ، هذه الكراهية هوادة فوق البيعة.

وهنا يتبخر إيمان الحداثيون بالجماهير لصالح الإنتقام من الكيزان علي يد أي بندقية متوفرة أو أجنبي له مصالح مشبوهة.

ورغم كثرة كارهي وناقدي االشيخ الجليل محمود الا انني لا اعلم عن اساءة في حقه تفوق فظاعة الزج بنبؤاته وباسمه الكريم في التبرير لاسوأ جريمة في تاريخ السودان ولنظم الجينوسايد والفصل العنصري.

فمستشار حميدتي كان ايضا قد شبه حربه ضد السودان بكفاح الدولة العب@رىة ضد الارهاب الإسلامي.

لا شك في وجود نزوع حداثي عول علي الجنجويد في تأديب الكيزان وتأسيس لمدنية علي رماحهم المنتصبة . ولكن لا يجوز التعميم علي كل اتباع الاستاذ محمود ولا كل المراكسة ولا كل الليبرال – المتلبرلين بفهم او بدونه. فمن كل هذه الطوائف لنا اصدقاء وافراد امجاد نحبهم ونحترمهم.

وكان وظل هذا التعويل علي الجنجا قابعا في لا-وعي مجموعات ما زال بها حياء مانع للجهر فرشحت امنياتها بان ينتقم لها حميدتي في شكل سلبية ولا مبالاة محيرة تجاه العنف الجنجويدي الذي روع الجنينة واواسط السودان.

باختصار حميدتي هو السيف الذي سيثأر للحداثيين ويطبب جروحهم ويعوضهم نفسيا عن الكدمات النفسية التي الحقها الكيزان بهم بانتصاراتهم المشروعة في انتخابات طلاب الجامعات او حصد جل دوائر الخريجين في آخر انتخابات ديمقراطية او بافعالهم غير المشروعة من قهر وتجبر واحتكار وتعالي قبل وبعد انقلاب ١٩٨٩.

ولا يؤرق ضمير الحداثيين ولا البابهم ان الجنجويد عاقبوا الشعب بالملايين واعفوا الكيزان بل خدموهم للمرة الثانية.

في المرة الاولي خدم الجنجويد الكيزان حين كانوا ذراعهم الباطشة وكان محمد حمدان دقلو حماية للبشير. وخدموهم خدمة اجل في المرة الثانية بفتح الطريق لعودتهم بقوة للمشهد نتيجة للعنف الجنجويدي الذي استباح دار السوداني وماله وعرضه. ذلك العنف الذي قابلته مجموعات حداثية بحياد وقابلته مجموعات اخري بتواطوء.

ولا يهم المحايدون ولا كتاب الرش السريع الذين قالوا ان الجنجويد سم اتي علي قدر غداء الكيزان انه سم تجرعه شعب الله المسكين الذي دبل له الجنجا من عسف البشير. اما الكيزان النافذين فهم في تهني وغاية انسجام في الأحياء الراقية في اسطنبول والدوحة والامارات ومدينتي والرحاب وما شابه.

ولو عاد الكيزان فلا يلومن احد من حداثيي الحياد او التواطوء الا انفسهم. وننصحهم الا يفكروا في التدليس بنقل الملام للابطال الذين تصدوا للعنف الجنجويدي فالدفاع عن النفس حق انساني طبيعي لا يحتاج الي تبرير او مجمجمة .

رغم اني اعلم عن رجل شاب صحيح الجسم ادمن اللصوص اقتحام داره في ليل بهيم وكان لا يترك سريره ويكتفي بان يحاضرهم منددا بالقول لهم عن عدم ذوقهم وعدم استهداف جيرانه لتوزيع عبء سرقاتهم بعدالة بين اهل الحي. ولما عرف اللصوص “سلمية” الرجل واعتزاله الفتنة صاروا يدخلون داره منتصف الليل ويفتحون الثلاجة ويسخنون الدمعات واللحوم وياكلون وياخذون ما شاؤوا ويذهبون. ومن يهن يسهل الهوان عليه.

ولكني لا اعلم عن اب هجم غاصب علي داره او بنته فصرخ صرخة وديعة، رخيمة بنغمة “لا للاغتصاب”. ولا اعلم كيف يكون “لا للتشريد” شعارا مناسبا لغزاة اخرجوا الملاييين من دورهم الي منافي المسغبة والهوان.

معتصم اقرع