انضمام كيكل الواقع والمتوقع

أحدثت الخطوة التي أقدم عليها أبو عاقلة كيكل دويا إعلاميا هائلا، كان مبتدؤه انقسام الرأي حول طبيعة هذه الخطوة؛ فمال غالب الناس إلى أنه استسلم للجيش، ولعل من ذهب ذلك المذهب ينطلق من أمانى النفس، علاوة على بعض الفيديوهات التي ظهر فيها كيكل يتحدث عن عدم رضاه عن القتال بين أبناء الوطن الواحد، والدين الواحد، وقد جاءت هذه الفيديوهات متزامنة مع انفتاح الجيش على أماكن متعددة في العاصمة وبعض الولايات.

وقد ذهب آخرون منهم مقربون من الرجل، ومناوئون للجيش إلى أن الرجل لم يستسلم، وإنما سالم بناء على اتفاق، وأيا كان الواقع، فإن الرجل الآن لم يعد ضمن منظومة الدعم السريع.
كان كيكل قد أنشأ قوات درع البطانة منطلقا من منبر البطانة الحر الذي أنشئ بوصفه كيانا مطلبيا في تلك المنطقة المعروفة بالبطانة، وهي مساحة تقع بين نهر عطبرة، والنيل الأزرق، وهي كيان اجتماعي أكثر من كونها وحدة إدارية؛ فهي تقع في عدد من الولايات، إلا أن سكانها يتمتعون بإحساس الانتماء لها رغم انتماءاتهم الموزعة، فهي أشبه بإقليم كردستان رغم أن الأخير تتقاسمه دول، وليس أقاليم داخل دولة واحدة.

كانت الفترة التي تلت سقوط نظام الرئيس عمر البشير فترة لم يُشهَد مثلها من حيث السيولة الأمنية، والهشاشة السياسية، مما أغرى الكثيرين بنزع يد الطاعة تحت دعاوى مختلفة، حتى ظهر بعض الضباط السابقين يتسابقون لتكوين حركات مسلحة ذات أجندة جهوية.
في ذلك الوضع السياسي والعسكري المتداعي، وفي خواتيم العام الميلادي2022 كون أبو عاقلة محمد أحمد يوسف كيكل المنتمي إلى البطانة، وإلى قبيلة الشكرية العريقة صاحبة الولاية القبلية في تلك المنطقة قوة مسلحة تحت مسمى درع البطانة، وقد كان أن لاقى معارضة من كثير من أعيان المنطقة، والقبيلة بسبب إنشاء القوات من حيث المبدأ، أو بسبب تسمية القوة باسم المنطقة، مما دعاه لأن يعتمد لها اسم درع السودان، شاقا طريقه، مخالفا رأي الأعيان، والعقلاء، مع ملاحظة أن هناك بعض الأعيان قد قابل هذه الخطوة بارتياح؛ بحسبانها تصنع توازنا في القوة التي أصبحت هي الأساس في توزيع المكاسب السياسية، والمادية في السودان في عهد الرئيس البشير وفيما تلاه من عهد، خاصة بعد توقيع اتفاق جوبا للسلام.

لم يرصد لكيكل في بداية تكوينه لهذه القوات أي ميول سياسية، ولا طموح، بل كان الهدف المعلن هو عمل توازن قوة يستفاد منه في الضغط على الحكومة المركزية للتوزيع العادل للسلطة، والثروة، خاصة بعد رسخ في الوجدان الجمعي السوداني أن الحكومة لا تستجيب إلا لمطالب حملة السلاح، ولعل المراقب لملابسات ميلاد هذه القوة لا تفوت عليه ملاحظة السكوت الرسمي عن تحركات كيكل، مما فُسِّر بأنه تعبير عن رضا قادة الجيش، وربما كان ذلك بذات دافع صناعة القوة الوازنة، خاصة بعد التهافت المضطرد من الدولة على كل عائد من التمرد، ومنحه الامتيازات، وألقاب البطولة.

يقدر مراقبون هذه القوة عند الإعلان عنها بما يزيد على عشرين ألف جندي، وإن كان هناك من يعد هذه مبالغة لعمل دعاية لهذه القوات، ولتشجيع الانخراط فيها، أو دعمها.
كانت هناك قوة أخرى قد أعلن عنها ضابط سابق في الجيش كان ناطقا رسميا باسمه هو الصوارمي خالد، لكنها ووجهت بحسم نادر أدى لتراجعه عن الفكرة، وربما يكون مرد ذلك الحزم غير المعتاد في تلك الفترة، الذي قوبلت به هذه القوة أنها كانت في العاصمة، ومن ضابط سابق في القوات المسلحة، وربما خشية انتقال العدوى لضباط آخرين.

لم يمض على تمرد الدعم السريع غير أربعة أشهر حتى فاجأ أبو عاقلة كيكل كل المراقبين بإعلان انضمامه للدعم السريع، وولائه لقائده، ثم انخراطه في قتال الجيش السوداني، في ولاية الجزيرة، وسنار، والقضارف، ولقد كان لتعاونه مع قوات الدعم السريع الأثر البالغ في تيسير اجتياحه لمدن ولاية الجزيرة، وقراها، مما نتج عنه انتهاكات واسعة لحرمة الدماء،

والأعراض، والأموال في سلوك بدا ممنهجا ومخططا، مما أدخل كيكل، وقواته في حرج بالغ، حيث لم يكن في مقدوره منع الانتهاكات، وإيقاف الهمجية المتوحشة ضد مواطني ولاية يقطنها أرحامه، و أصهاره، ومعارفه، فباء باللعنات التي أصبحت تصب عليه في الخلوات، وأدبار الصلوات.
مع هذا الواقع بدا كيكل في بعض مخاطباته يظهر شيئا من التندم، وعدم الرضا عما يصيب المواطنين من للمتمردين القادمين من أصقاع الأرض، فتوقع كثير من المراقبين أن الرجل يبحث عن مخرج عن الورطة التي أدخل فيها نفسه، وأهله، و قبيلته.

كان من الملاحظ أن الأماكن التي كانت تحت سيطرته لم تشهد من الانتهاكات ما وقع في غيرها من المناطق التي اجتاحتها قوات الدعم السريع، مما قد يقلل مستقبلا من مستوى مسؤوليته مقارنة بحلفائه في الدعم السريع.

قامت القوات المسلحة بتنظيم صفوفها، وزيادة أعداها، وإمداد قواتها تمهيدا للكر على قوات الدعم السريع، فنجحت في استرداد مواقع استراتيجية، ومؤثرة، مما شكل ضغطا معنويا، وعسكريا على قوات الدعم السريع، وحلفائها، الأمر الذي جعل هواجس كيكل تتحول إلى تفكير جاد في التحلل من الدعم السريع، حتى فاجأ الجميع بظهوره مع القوات المسلحة معلنا انضمامه إليها في خطوة صورها الإعلام الموالي للجيش ، وكأنها استسلام من الرجل، بينما صورها الإعلام الموالي للمليشيا وكأنها خيانة، ثم قطعت جهيزة الجيش قول الخطباء بوصف ذلك بأنه انضمام للجيش، ولا عطر بعد عروس، لكن وسط ذلك الغبار لم تتأخر القوة المدنية المساندة للتمرد تحت غطاء رفض الحرب عن رفضها الخطوة التي قام بها كيكل!

هناك لغط آخر قانوني أثير حول قانونية العفو عن كيكل، وأخلاقيته، فهل صدر عفو عن كيكل في اتفاق جرى معه، أم أسند الأمر إلى العفو السابق الذي انتقضت مدته.
وهل العفو يصدر، أو بجدد من رأس الدولة أم من الناطق الرسمي باسم الجيش؟
أم أن الأمر كله يعتبر تنفيذا جزيئا لاتفاق جدة الموقع بين الحكومة والمتمردين؟

لا شك عندي أن العفو العام الذي عرضه رئيس مجلس السيادة على المتمردين في الأيام الأولى للحرب قد انتقضت مدته، ولم يعد ساريا، كما أن العفو العام مناط بقرارات رأس الدولة، ولا يبقى عندي إلا الاستناد إلى اتفاق جدة، وقد كنا نتوقع أن يكون الأمر متماسكا ومنسقا بترتيب يبدأ بإعلان العفو ،أو الاستناد إلى اتفاق جدة، ثم أعلان الانضمام في مشهد يظهر علو الدولة، وقوامتها، ويراعي شعور الضحايا، ولكن فات الأمر كالعادة.

يبقى القول إن هناك نتائج متوقعة من هذا الانضمام للجيش منها ما هو في صالح الجيش، ومنها ما يمكن أن يضر بسير المعركة، من ذلك:
1-تعزيز الاصطفاف الجهوي حيث كان وجود كيكل في الدعم السريع يشكل نوعا مغايرا لغالب مكونه حيث يعطيه نكهة قومية، حتى وإن كانت غير ذات تأثير كبير.

2-اشتداد المعارك بدافع تمايز الصفوف، والانتقام ممن يعتبر خائنا، خاصة في ظل الجهل، والنزعة القبلية شديدة الولاء المستشرية في غالب جنود المتمردين.
3- تطويل أمد الحرب، والاستمساك بها مهما كلف الأمر باعتبار أن الدافع أصبح دافعا شخصيا مرتبطا بالكرامة.

4- كشفت هذه الخطوة عن عدم تماسك الوجدان الشعبي الذي كان سائدا وذلك بالسير في المعركة حتى حسمها التام، ظهرذلك من خلال الترحيب بهذا الانضمام للجيش، فمر الأمر وكأنه لم تكن هناك دماء وأعراض، وأموال.

5- كذلك مثل العفو نسخا لكل التصريحات الجازمة من راس الدولة بأنه لا تسامح مع هولا القتلة، ولن توضع البندقية إلا بعد حسم التمرد تماما، وهذا الأمر كان يمكن تلافيه بقيل من حسن الإخراج.

من جهة أخرى، فإن لانضمام كيكل للجيش أثره الإيجابي المتوقع من ذلك:
1-التأثير السالب على معنويات المتمردين خاصة مع ضربات الجيش الموجعة التي بات الجيش يوجهها باستمرار، وبتاثير كبير في قوة المتمردين.

2- تشجيع آخرين على القيام بهذه الخطوة، خاصة وأن هناك كثيرين من المغرر بهم وسط المتمردين.
3- تحييد قوة كان تمثل مصدر قلق للجيش، وحاميا لظهر المتمردين، ولا شك في أن هذا مكسب كبير للجيش، وخسارة للمتمردين.
4- زيادة معدل الشك، ولكم في وعدم الاطمئنان بين أفراد القوات المتمردة مما يضعف من تماسكها، ويسهل اختراقها من قبل القوات المسلحة.

أ. د. الخاتم عبد الرحمن

Exit mobile version