أب كريك في اللجج:
يحاول الناس أن يستبقوا الاحداث ليتأكدوا أن ما يحدث ليس صدفة. ففي سبعة أيام فقط تغير مشهد الحرب في السودان وسقطت “السرديات” الواحدة تلو الأخرى وكأنها بقايا الجليد في قمة كلمنجارو أحرقتها شموس خط الاستواء فتدحرجت ليسقط معها كل الاعلام المصنوع الذي صور لنا أننا أمة مهزومة يجب عليها الاستسلام لطوفان المليشيا كما استسلمت اليابان في الحرب العالمية الثانية أو نرضخ لأوامر مبعوث اليانكي الذي لم يكلف خاطره بأن تطأ قدماه أرض السودان وظل يصدر التصريحات الواحدة تلو الأخرى متوعدا بالويل والثبور إن لم يحضر وفد الحكومة إلى جنيف.
فجأة سدر (أبكريك) وحبس الفجج، وتفجرت أرض السودان رجالا ونساء يحملون الوطن بين حدقات العيون. الجيش الذي كان منذ بداية الحرب حبيسا لمعسكراته خرج منها، والذي كان يتحرك ببطء السلحفاة في تكتيكات عتيقة بالية بدأ يمارس كل أنواع الحركة والالتفاتات حتى صار من الصعب على المراقبين المتابعة أو التنبؤ بالنتائج. فبينما كل الأعين ترقب العبور العظيم والتشبث بالأرض شرق النيل والانفتاح في كل الاتجاهات بالعاصمة المثلثة، خرج تماسيح النيل الأبيض وفهود النيل الأزرق وحاملي البشارة وقناديل النصر من المناقل. وتفجرت ينابيع جبل موية فخرا واعتزازا وهي ترقب الرجال يسطرون بدمهم ملاحم العز وفخر العز والكرامة. وقبل أن تعانق الجباه الساجدة تراب معسكرات جبل موية تفجرت الصحراء ببراكين القوات المشتركة ومعها زلزال معركة منطقة (مدو) التي قصمت ظهر المليشيات وأرسلت موجات من الهلع في كامل تراب دارفور. وبينما تمتد خطوط الرسم في رمال شمال دارفور حتى تكتمل الصورة بلقاء الأبطال في الفاشر كانت غرب دارفور تنهض في وجه المليشيا في كلبس وسربا تثأر لدماء الضحايا وتتوجه بعزم نحو الجنينة.
وكي تتضح الصورة دعونا نستعين ببعض المصطلحات العسكرية من (تربيزة الرمل) حيث يجتمع قادة الجيش ووحدة القيادة والسيطرة لرسم خارطة المعارك. أول ما يتم تحديده هو مسرح الحرب. والمصطلح يشير للبعد الاستراتيجي الأشمل لكل ما يرتبط بالحرب داخليا وخارجيا بما في ذلك التحالفات وسلاسل الامداد والدول الداعمة للمليشيا والتحركات الدبلوماسية المرتبطة بمسار الحرب والعملية السياسية المتعلقة بأهداف الحرب نفسها. ويدخل في مسرح الحرب مسرح العمليات ويقصد به نطاق حركة الجيوش داخل الدولة وهو مسرح تحركه هيئة القيادة والسيطرة للجيش وكل حركة فيه محسوبة بدقة ومتكاملة مع غيرها من الحركات. ومستوى الحرب في السودان عمليا هو عمليات مشتركة تقوم فيها وحدات بحرية وجوية وبرية وأسلحة استراتيجية أخرى بالعمل في تناغم كامل كمن يعزف قطعة موسيقية لا يمكن السماح خلال عزفها بانفراد آلة بالعزف في زمن مفارق وإلا صارت القطعة كلها نشاز. وكذلك نجد أن القوات المشاركة في هذه العمليات هي قوات مختلطة من مختلف الصنوف (اسم القوات المشتركة يشير إلى قوات مختلطة أيضا).
في مسرح العمليات تبدو هيئة القيادة والسيطرة هي الوحيدة الناظرة للصورة الكلية وتعرف بالضبط متى تحرك القوات ومتى تحرك الصنوف المختلفة من طيران ومدفعية وبرية. بل وهي كذلك التي تحدد مكان العمليات النشطة والمهمات والأهداف الاستراتيجية، حتى انها قد تحرك متحركات ضخمة لحصار منطقة ما دون أن تكون نيتها خوض عمليات حقيقية وانما جذب أكبر عدد من قوات العدو لتحييدها في هذه المنطقة بينما يكون الهدف هو منطقة أخرى خفت فيها أعداد العدو وآلياته.
من مسرع العمليات ننزل إلى ميدان العمليات وهي هنا هذه المعارك التي نراها تشتعل في جبل موية أو في غرب دارفور او في شمال دارفور أو في بحري أو في الخرطوم. رغم أن الحركة في أي ميدان منها تتحكم فيه هيئة القيادة والسيطرة إلا أن قادة الميدان لهم مساحة المناورة وتحقيق الأهداف بتنفيذ الأوامر الصادرة إليهم عند التحرك. وبينما تنجز المهام على هذا المستوى تكون هيئة القيادة والسيطرة قد حركت قطع الشطرنج استعدادا لتقدم آخر يحدث المفاجأة لدى العدو وينتهي بانهياره.
بالنظر لما تحقق الفترة الماضية نجد أن هيئة القيادة والسيطرة للجيش السوداني قد امتلكت تماما زمام المبادرة بحيث تستطيع هي وحدها تحديد ميادين المعركة القادمة ضد المليشيا التي وجدت نفسها ليست فقط تتحول إلى قوات منعزلة في وسط بحر هائل من القوات المسلحة كما هو وضع سنجة والدندر والسوكي الآن. أو فاقد للبوصلة والهدف ومعرضة للتشتت كما هو حادث الآن لها في الفاشر والخرطوم وقريبا في مدني أو تائهة في صحاري كردفان تنتظر حركة الهجانة القادمة. بإمكان المليشيا أن تحاول استجماع قوتها والقيام بحركة يائسة من أجل استرجاع جزء من معنويات قواتها الهابطة في الحضيض أو التمسك حتى آخر جندي بمواقع دفاعتها انتظارا لنجدة ما تقدمها الدولة الراعية للتمرد. ولكن يظل (أبكريك في اللجج سدر حبس الفجج) جاهزا لإهدائنا الفرحة القادمة في بقعة طاهرة من أرض السودان.
د. أسامة عيدروس
6 أكتوبر 2024م