لطالما كانت جزيرة توتي تُعرف بلقب “درة النيل”، تُحاط بجمال طبيعي حيث يلتقي النيل الأزرق بالنيل الأبيض. كانت تلك الجزيرة الصغيرة، التي تبلغ مساحتها نحو 990 فدانًا، ملاذًا للسياح ومحبي الطبيعة. يعود تاريخها إلى أكثر من سبعة قرون، وكانت مقصدًا للزوار الراغبين في الهروب من ضجيج المدينة إلى هدوء وخضرة بساتين الفاكهة والليمون. لكن منذ اندلاع الحرب في السودان قبل أكثر من 16 شهرًا، تحولت حياة سكان الجزيرة، البالغ عددهم نحو 45 ألفًا، إلى جحيم مستمر.
ففي الأيام الأولى من الحرب، فرضت قوات الدعم السريع حصارًا خانقًا على الجزيرة، مما أدى إلى توقف الحياة الطبيعية. كانت التكايا، التي لطالما وفرت الطعام لسكان الجزيرة، مهددة بالتوقف في ظل نهب المتاجر وترويع التجار. توقفت الكهرباء منذ يوليو 2023، ما جعل الحياة أكثر قسوة. بات السكان يعيشون في ظلام دامس غير قادرين على التواصل مع العالم الخارجي أو الحصول على احتياجاتهم الأساسية.
في الأشهر الأخيرة، ازدادت الأمور سوءًا. ومع تزايد انقطاع الدواء والغذاء، تفشى وباء الحميات في الجزيرة. يومًا بعد يوم، يفقد الأهالي أحباءهم، مع تسجيل ما بين 5 إلى 10 وفيات يوميًا بسبب نقص الأدوية المنقذة للحياة. القلة من الأطباء المتبقين يعجزون عن مواجهة الأزمة، ويموت المرضى دون أدنى فرصة للعلاج.
لم يتوقف الأمر عند الأوبئة، فقد نشطت قوات الدعم السريع في نهب البيوت وضرب المواطنين وسرقة ممتلكاتهم. لم تسلم الجزيرة من وحشيتهم، حيث تعيش العائلات في رعب دائم، مع عدم وجود مكان آمن يلجأون إليه. الأطفال والكبار، الرجال والنساء، الجميع تحت تهديد دائم من الذل والإهانة.
في ظل هذه الظروف الصعبة، ناشدت لجنة أبناء توتي بالخارج جميع المنظمات الإنسانية للتدخل العاجل لوقف هذا الموت الجماعي وإنقاذ ما تبقى من أرواح على الجزيرة. ورغم النداءات المستمرة، لا تزال توتي تواجه المصير القاسي نفسه، حيث تنتظر قلوب محطمة وعدًا بإنقاذ قريب.
#فكوا_الحصار_عن_توتي
لم تقتصر معاناة سكان توتي على الحصار والترويع، بل شملت فقدان الأمان الذي عاشوا فيه منذ مئات السنين. توتي، التي كانت مركزًا للثقافة السودانية ورمزًا للصمود الوطني عبر تاريخها الطويل، أصبحت الآن مسرحًا للمعاناة التي لا يعرف العالم عنها الكثير. النساء يعتنين بأطفالهن في ظل أصعب الظروف، في حين يتراجع الأمل ببطء مع كل يوم جديد دون مساعدة ودون إشارات واضحة لفك الحصار.
وتروي أم حليمة، إحدى الناجيات من المرض في توتي، كيف اضطرت لدفن ابنها الذي كان في ربيعه الثالث عشر بمساعدة جيرانها، بعد أن قضت عليه الحمى لعدم توفر الدواء. “رأيت الحياة تُسحب من عينيه وهو ينظر إليّ، ولا أستطيع فعل شيء. كان الأمر كأنني فقدت نفسي معه”، تقول أم حليمة وهي تمسح دموعها. كان ابنها يحلم بأن يصبح طبيبًا يومًا ما، لكنه رحل دون أن يحقق حلمه.
أما في الجانب الآخر من الجزيرة، تقف الخالة مريم، وهي امرأة في العقد السادس من عمرها، أمام بقايا بيتها الذي نُهب ودُمّر. كانت تستعد للاحتفال بزفاف ابنتها قبل الحصار، لكن الفرح تحوّل إلى كابوس عندما هجم المسلحون على المنزل وسرقوا كل شيء. تقول مريم بصوت مخنوق: “كان كل ما نملكه موجودًا في هذا المنزل، والآن لا نملك شيئًا، حتى الأحلام سُرقت منا”.
تعيش العائلات في توتي في حالة مستمرة من الانتظار والخوف. ينتظرون تدخلًا خارجيًا لرفع الحصار وإعادة الأمان للجزيرة، لكن الزمن يمر والحصار يشتد. الأطفال الذين كانوا يلعبون في مزارع المانجو والليمون، أصبحوا الآن رهائن للخوف والجوع، بينما أمهاتهم يبحثن عن فتات الطعام لإبقائهم على قيد الحياة.
رغم المحاولات المستمرة من لجنة أبناء توتي بالخارج للتواصل مع المنظمات الإنسانية والضغط الدولي، إلا أن الأمل يتضاءل. كل يوم يتأخر فيه التدخل يعني خسارة مزيد من الأرواح. توتي تستغيث، ونداؤها يتردد في سماء السودان، تنتظر من يسمع ويرى معاناتها ويضع حدًا لهذا الألم المستمر.
نداء أخير لإنقاذ الأرواح
في ظل هذه المعاناة المستمرة، لا تزال توتي تقاوم بروح أهلها وصمودهم الذي لم ينكسر رغم الجراح. فالجزيرة التي كانت رمزًا للوحدة والجمال، تعيش الآن على أمل جديد يأتي من خارج حدودها. فالأصوات التي تخرج من توتي باتت تشق طريقها إلى العالم، تحمل معها قصص الفقد والصبر، وتصرخ للعالم طلبًا للنجدة.
في كل يوم، يتجمع أهل توتي في ما تبقى من مزارعهم، يتحدثون عن الأيام الجميلة التي كانت فيها الجزيرة واحة للأمان والسلام. يتذكرون مهرجانات الزراعة واحتفالات الحصاد وزيارات السياح الذين كانوا يأتون لرؤية هذا المكان الذي كان يُلقب بجوهرة النيل. ولكن اليوم، الحياة التي عرفوها أصبحت ذكرى بعيدة، محاصرة بالجوع والخوف.
يقول إبراهيم، وهو مزارع من توتي: “كنا نعيش هنا بسلام. الأرض تعطينا الخير، ونحن نعطيها حبنا وعملنا. لكن الآن أصبحت أرضنا محرمة علينا، وكأن النيل ذاته يعاقبنا. لا طعام، لا دواء، ولا حتى كهرباء لنرى وجوه أطفالنا في الليل”.
ورغم الألم، يظل هناك بصيص أمل يلوح في الأفق. تستمر لجنة أبناء توتي بالخارج في نداءاتها المتكررة، مطالبين بفتح الممرات الإنسانية وتوفير المساعدات الضرورية. يحدوهم الأمل بأن يتجاوب العالم مع هذه النداءات، وأن ينجح الضغط الدولي في فك الحصار وإعادة الحياة إلى توتي.
لقد أثبت أهل توتي عبر تاريخهم الطويل قدرتهم على التحمل والصمود في وجه المحن، من الاستعمار البريطاني إلى الحروب الأهلية المختلفة. لكن الحرب الحالية التي تحاصرهم خلف النيلين قد تكون أقسى اختبار لهم على الإطلاق.
ومع كل يوم يمر، يواصل سكان توتي النضال من أجل البقاء. يزرعون بذور الأمل في قلوبهم رغم شح الطعام، ويرفعون صلواتهم لعل الفرج يأتي قريبًا. ففي نهاية المطاف، توتي ليست مجرد جزيرة؛ إنها رمز لصمود الإنسان أمام قسوة الحروب.
العربية نت