زيارة مجلس السلم والأمن بالإتحاد الأفريقي لبورتسودان في الأسبوع الأول من أكتوبر 2024م ولقائه الفريق أول البرهان، رئيس مجلس السيادة، وإعلانهم الوقوف بجانب السودان لمحو التمرد والحرب المفروضة والمدعومة خارجيا، جاءت كخطوة تصحيحية، ربما لاستعادة بعض الاحترام لمفوضية الإتحاد التي خالفت صريح قوانينه وإعلاناته المعتمدة، ومن تلقاء النقد الذي وجه من عديد الدول الأعضاء واتهامها بالتماهي مع أجندة فرضت من خارج أفريقيا في الشأن السوداني.
فالمجلس يمثل الأقاليم الخمسة في القارة، وهو المؤسسة المختصة بتقديم الرؤى والمبادرات والتوصيات لرؤساء الدول والحكومات الأفريقية لإتخاذ ما يرون بشأن حفظ وصيانة وتحقيق السلم والأمن القاري.
للأسف ظل موقف الإتحاد الأفريقي سلبياً تجاه السودان منذ أبريل 2019م. فقد تعامل بمكيالين، إذ تقاعس عن إنفاذ بنود إعلان رؤساء الدول والحكومات الذي اعتمد في أكرا – عاصمة غانا – في مارس 2023م وتنص الفقرة (1): [الإلتزام الصارم بعدم الإعتراف بأي تغيير للحكومات بطرق غير دستورية؛ وبأية طريقة وتحت أي ظرف كان…] غير أنه عندما تمت السيطرة على السلطة بواسطة الجيش في أبريل 2019م، وأعلن قائده، الفريق أول عوض ابنعوف، عبر التلفزيون للشعب السوداني أنه: ” قد تم التحفظ على رأس النظام” كان ذلك الرأس هو: عمر حسن أحمد البشير، الرئيس السوداني المنتخب في أبريل 2015م، وفي انتخابات عامة، شارك فيها 20 مراقبا من الإتحاد الأفريقي، برئاسة أوليسيقون أوباسنقو، الرئيس النيجيري الأسبق، وتحت مظلة بعثة مراقبة الانتخابات بالإتحاد الأفريقي، التي أجريت خلال الفترة 13 – 16 أبريل 2015م.
وكانت مفوضية الإتحاد الأفريقي قد أرسلت قبل شهر من موعد الانتخابات بعثة من مجلس السلم والأمن الأفريقي، فرفعت تقريرها حول أهمية المشاركة وظروف وإمكانية المراقبة.
وقد شارك في مراقبة تلك الانتخابات، التي أضحت للأسف الأخيرة في سودان ما قبل أبريل 2019، بالإضافة للإتحاد الأفريقي، منظمتا الإيقاد والكوميسا، فضلا عن جامعة الدول العربية، ووفد مراقبة من جمهورية الصين الشعبية.
نشرت بعثة المراقبة التابعة للإتحاد الأفريقي تقريرها الذي أشادت فيه بالمشاركة الواسعة للمرأة، وبالانضباط الإداري والأمني في كافة المراكز الانتخابية، وأشادت بشعب السودان، وبسلمية الانتخابات، وتأمين عمليات الإقتراع.
ثم ذيلت اللجنة القارية تقريرها بالإفادة بأن الانتخابات عكست رغبة الشعب السوداني في اختيار من يحكمه، كما أوصى التقرير الحكومة بأهمية استمرار الحوار بينها وكافة الأحزاب السياسية التي قاطع بعضها الانتخابات، كما أوصت باستمرار جهود الحلول السلمية في المناطق التي تتعرض للتمرد من مجموعات مسلحة في بعض مناطق ولايات دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان.
بيد أنه عندما تمت تنحية الرئيس المنتخب عمر البشير بواسطة قيادة الجيش، والذي لم يقدم ولم يطلب منه تقديم استقالته، تقاعس الإتحاد الأفريقي وتغاضى عن إنفاذ القانون التأسيسي للإتحاد ومنطوق الفقرة الأولى الواردة في ‘إعلان أكرا’ المعتمد من قبل الإتحاد وكافة الدول الأعضاء في الإتحاد الأفريقي ومنذ مارس 2022م، والذي يقضي برفض وعدم الإعتراف بأي تغيير غير دستوري لنظام الحكم، وقد أجيز الأعلان بالإجماع.
بيد أنه عندما تم فض شراكة تقسيم السلطة بين العسكر والناشطين السياسيين وبعض الأحزاب المتدثرة بهم، ومباشرة إثر استقالة دكتور عبدالله حمدوك، رئيس وزراء الشراكة، الذي لم يكن رئيسا منتخبا، ولا متوافق عليه وطنيا، في يناير 2022م، سارعت مفوضية الإتحاد الأفريقي فأعلنت تجميد نشاط السودان في الإتحاد الأفريقي التزاما بإعلان أكرا.
هذا السلوك التفريقي الناشز يطلق عليه في دبلوماسية العلاقات الدولية مصطلح: ‘الكيل بمكيالين’. ويقابله في تشريع المسلمين النص القرآني الناهي:
“ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون” – الآيات: ١-٣ – سورة المطففين.
بالتالي فقد خالفت مفوضية الإتحاد الأفريقي، وبازدراء واستهتار واضحين، صريح قراراته الملزمة، وتنكرت لروح ومادة الميثاق التأسيسي للإتحاد الأفريقي Constitutive Act وهو الميثاق العام الذي صادقت عليه الدول الأعضاء، فانحازت بالتدليس لمناصرة شخص غير منتخب، جاء للحكم محمولاً على ظهر إنقلاب عسكري موثق بالصورة والصوت ومشهود على مستوى فضائيات العالم، وبالتواطؤ مع قوة عسكرية اقتسمت معه السلطة التنفيذية، فارتضاها سلطة تشريعية للبلاد، دون استفتاء لا انتخابات لا مشورة شعبية من أهلها.
لم تكتف المفوضية بذلك الموقف الناشز والمنبوذ، ولم تعتذر، بل أساءت لمبادئ الإتحاد الحاكمة والمؤسسة تارة أخرى، إثر فشل الانقلاب المسلح للإستيلاء على السلطة، الذي دبره قائد الدعم السريع في 15 أبريل 2023م فظلت أبواب المفوضية مشرعة لاستقباله ووفده، وأخذ الصور التذكارية معه، كأنه رئيس دولة منتخب ديمقراطيا.
هذا الموقف المسيئ لمبادئ الإتحاد الأفريقي سيظل بصمة مسيئة، وسلوك غير مسئول ومرفوض في كافة أدبيات وأخلاقيات التعامل مع الدول ذات السيادة، وانتهاكا صارخا لمبادئ الحكم الراشد. وسيظل كذلك حتى يتم تعديله وتصحيحه من رئيس المفوضية المنتخب القادم.
يرى بعض المحللين المختصين بالشأن الأفريقي أن المفوضية تعاني من شح الموارد المالية، حيث بلغ العجز في ميزانيتها عام 2023م أكثر من 30%. إذ تعتمد المفوضية دوماً على الدول الخارجية لتمويل هذا العجز مما يعرضها لتجاوز المبادئ الحاكمة في مجال استقلالية القرار والحكم الراشد، مما يفضي لتهديد السلم والأمن القاري الأفريقي وارتهانه للأجندة الخارجية.
غير أنه، وحتى إذا ما نظر لزيارة مجلس السلم والأمن بأنها تمثل اعتذارا صامتا لشعب السودان والمغتصبين والنازحين والمشردين المنهوبين، فإن تصريحات المبعوث الأمريكي توم بيريللو التي تزامنت مع توقيت الزيارة، وتصريحاته بأنه يسعى لحشد دول أفريقية لتشكيل قوة لحماية المدنيين في السودان، تضفي غباراً كثيفاً من التشكك والتوجس حول الأهداف المعلنة والمبهمة للزيارة. من الغريب أن يأتي تصريح المبعوث الأمريكي في وقت لم يتبق على ولايته وفترة الإدارة التي عينته أقل من شهر واحد.
إزاء هذه التكتيكات الدبلوماسية التي تحرك فيها بيادق القوى الدولية المناهضة للسودان، وبوقع راتب ومحموم، يتعين على حكومة السودان، التركيز على عمليات معركة الكرامة والتطهير الجارية، لبلوغ غاياتها المرسومة، والوفاء بالواجب الدستوري المنصوص عليه في القانون، والذي حدد مهام الجيش الوطني في إرساء الأمن والاستقرار، وتعزيز الدفاع الوطني، وحماية المدنيين، ويتضمن ذلك إرجاع النازحين واللاجئين لمساكنهم المحتلة، وإنفاذ سلطة وحكم القانون، بعد رفض المرتزقة الذين يحتلونها، ورفض المظلة التي يعملون تحتها إنفاذ اتفاقية جدة الموقعة في مايو 2023م.
يتعين على الحكومة في الوقت الراهن، الوقوف بعيدا عن مصائد التربص المنصوبة في كل مكان، والتركيز على إنجاح عمليات التحرير والتطهير الجارية على مستوى البلاد، وتجميد المشاركات الخارجية في كافة التجمعات الإقليمية والقارية، والإكتفاء فقط بمنبر الأمم المتحدة، والعمل حثيثا على عقد اتفاقيات ثنائية موضوعية مع دول محدودة ومنتقاة بدقة، لتعزيز السيادة وحماية وحدة التراب الوطني والاستقلال السياسي.
ذلك لأن المرحلة التالية لعمليات التطهير وتحرير المختطفين والإخلاء، تستدعي مراجعات شاملة في الداخل السوداني، وعلى كافة المستويات، وبين السودانيين أنفسهم، ودون أي تدخل خارجي.
ويشمل ذلك مراجعة استراتيجية وموجهات وأولويات السياسة الخارجية، وإعادة النظر في الأولويات، وأهمية ومستوى العلاقات الدبلوماسية مع كافة الدول، وبناء العلاقات الثنائية استنادا على مستوى المصالح العليا للبلاد، دون النظر لأي اعتبار آخر.
فالدول التي وقفت مع السودان وواسته في مصيبته ماديا ودبلوماسيا، واستضافت وخففت البأساء على مواطنيه المعذبين والمشردين والمغتصبين والمنهوبين، وتعاملت مع المؤسسات الدستورية المشروعة، ووقفت بجانبه في ساعة العسرة، هي الدول الأولى بالرعاية، فالصديق يعرف عند الضيق. فهذه المجموعة هي التي يتعين أن تحظى بأولوية العلاقات الدبلوماسية الثنائية حصريا خلال الفترة التالية.
فالمرحلة عنوانها إعادة الإعمار والبناء، وتقوية المؤسسات، وتحديد شكل الحكم، وتوسيع الفيدرالية، والتخطيط للمشروعية، والمشورة الشعبية الشاملة، وإصلاح البيت السوداني من الداخل، وبالأخص في مجالات تنفيذ إتفاق جوبا واستيعاب حركات الكفاح الوطني التي وقفت بجانب الوطن والشعب، وبناء تشكيلات قوات الاحتياطي والاستنفار والمقاومة الشعبية، في كل الجهات والمناطق والمحليات والولايات، لتصبح قوى ولائية مساندة للقوات المسلحة، على المستوى المحلي والولائي والقومي. فهذه خطوة دفاعية واستراتيجية وأولوية مهمة، تأتي كضرورة حتمية وأمنية للدفاع عن كيان الدولة، فرضتها بإلحاح أحداث 15 أبريل 2023م والدروس المستفادة، ومن تلقاء التدابير المتعين اتخاذها لعدم السماح بتكرارها بعد انكشاف مخططات التربص المحيطة بالبلاد، وارتباطها بأجندة خارجية، ذات أهداف تدميرية، ومهددات وجودية بعيدة المدى.
هذا هو الواجب الوطني المعين البدء في إنجازه اليوم قبل الغد. هذا ما يتعين على مجلس السيادة اجراءه والعكوف عليه دونما تقاعس ولا تردد. هذا هو مطلوب جميع شعب السودان اليوم. ألا من شذ، ومن شذ شذ في النار.
هذه مسئولية عظمى أمام الله والشعب والتاريخ.
دكتور حسن عيسى الطالب