رأي ومقالات

عادل عسوم: إلى أستاذي مع التحية

اهدي هذا المقال إلى كل اساتذتي الذين تعلمت على يديهم خلال سني حياتي وكل المعلمين في يومهم العالمي.
ابتدارا أعترف بأنني من المعجبين -جدا- بأدوار الممثل الأمريكي (سدني بواتييه)، وهو الممثل الذي ترك بصمة خالدة في سجل الذاكرة الأمريكية، بل والعالمية عندما أدى دور طبيب زنجي أحبته أمريكية بيضاء ليتوجا ذاك الحب بعلاقة زوجية سعيدة خلال الستينات، وقد حدث ذلك عندما كانت التفرقة العنصرية مقننة في أمريكا، واسم الفلم هو (خمِّن من سيأتي الى العشاء)…
لكن إعجابي كان أشد بفلم له آخر إسمه (الى أستاذي مع التحية) أو (الى أستاذي مع حبي) بناء على الترجمة الحرفية، هذا الفيلم أجده من أفضل الأفلام التي رأيتها خلال حياتي قصة وسيناريو وأداء…
سأتحدث عنه قليلاً ثم أدلف إلى ذكرياتي مع العديد من الأساتذة الذين شكلوا سوحاً من وجداني وتركوا بصمات خالدات في حياتي…
هذا الفلم كان -في الأصل- أغنية انجليزية شهيرة غنتها مطربة بريطانية في بدايات السبعينات، وقد اعتاد الوالد رحمه الله -وهو الذي عمل لسنوات طويلة في السلاح الطبي الانجليزي- في ليبيا وأثيوبيا وأفريقيا الوسطى- الدندنة بها وهو المجيد للانجليزية والمعجب بالموجب من سمت الحياة الانجليزية ثقافة وأسلوب حياة، أسألك ياربي أن تغفر له وترحمه وتفتح له في مرقده بابا من الجنة لايسد، وتجعل الفردوس الأعلى له مستقرا ومقيلا، ويوم يقوم إليك الناس اسألك ياربي أن تهبه لذة النظر إلى وجهك الكريم، انك ياربي وليُّ ذلك والقادر عليه…
راجت تلك الأغنية في كل من بريطانيا وأمريكا وأصبحت أغنية شعبية تحكي عن القدرة على تحمل وتجاوز الصعاب بالنسبة للمعلم أو حتى لكل امرء تعترضه صعوبات تبدو في ظاهرها عصية بل ومستحيلة التخطي والتجاوز، ثم تحولت الأغنية إلى فيلم…
وهذا الحال لايستطيع مجابهته والتواؤم معه إلا ذووا القدرة الفائقة على التعامل الحصيف مع الشخوص استصحابا واستخداما للعديد من القدرات القيادية التي لا توهب الاّ لقلة من الناس أساتذة كانوا أم غير ذلك…
والحق أقول بأنني كم أفدت من هذا الفلم وكم راقني دور سيدني بواتييه فيه حيث أضاف لي الكثير من الايجاب خلال حياتي الماضية ولم يزل، ولعلي بذلك أصبحتُ لا أجد نفسي الاّ في بيئات التحدي التي تتطلب كاريزما بعينها يمكن للمرء من خلالها التعامل مع الأحداث، وأجد في ثنايا ذلك امتاعا كبيرا وأنا أتخير زوايا النظر الموصلة إلى الحلول فأسعى جاهداً إلى تذليل العقبات والصعاب للخلوص إلى مراداتي وميس بغيتي…
كم كان التحدي كبيرا على الأستاذ سيدني بواتيه وهو يتعامل -لأول وهلة- مع تلاميذ أقل مايوصفون به أنهم لا أدب لهم، لا (قليلي أدب)!…
ويكفي أن يُعلم بأن جل تلاميذ تلك المدرسة كانوا (مرفودين) من مدارس أخرى!…
أولئك التلاميذ (البيض) ظلوا يعيرونه بلونه الأسود استصحابا لحال المجتمع الأمريكي الذي لا أكاد أجده برء من هذا المرض العضال…
وهؤلاء التلاميذ لم يكن فيهم من يرغب -حتى- الاستماع إليه وهو يلقي الدرس، ولا أحد منهم يسعى الى أداء الواجب البيتي…
لكن بواتييه وضع لنفسه مآلا وميسا أقسم على نفسه بأن يحققه، ليس انتصارا لنفسه بل محبة لهؤلاء الصغار الذين تكالبت عليهم العديد من المؤثرات الخارجة عن ارادتهم لتحيلهم إلى واقعهم ذاك…
وما أعظم الحب يا أحباب عندما يكون لنا موئلا ومناطا للتعامل مع الآخرين!
وبالمناسبة، لا أدري متى كان تأريخ انتاج مسرحية مدرسة المشاغبين لعادل أمام وبقية المبدعين الراحلين من نجوم الكوميديا المصرية، لكنني لا استبعد أنها قد جاءت بعد فيلم (إلى استاذي مع التحية)، فعندما شاهدت المسرحية لأول وهلة وكنت قبلها قد شاهدت الفيلم وجدت بعض الشبه بينهما، وكذلك شبه في بعض أدوار الممثلين هنا وهناك ومنها دور الممثل أحمد زكي.
ودور سيدني بواتيه في فيلم إلى (استاذي مع حبي) لم يخلو من بعض المظاهر الكوميدية، لكنها كوميديا في داخل الاطار التراجيدي الحزين، وكم تكون الكوميديا مؤثرة عندما تكون في هذا السياق، اذ تكون المعاني والمرادات فيها من العمق والاجادة بمكان، لكونها تشتمل على مضامين عديدة تذكي في نفس المشاهد الكثير من المشاعر والعبر، بينما أدوار عادل امام وسعيد صالح ويونس شلبي وسهير البابلي انحصرت في الاضحاك فقط…
قال سيدني بواتييه عن ذاك الفيلم:
عندما عُرض عليّ الدور أعجبني جدا، لكنني علمت بأن الأمر ليس بالسهولة التي يبدو بها، فما كان مني الاّ أن عمدت إلى كتب علم النفس أقرأ فيها الكثير عن طبائع النفوس البشرية، فسلوك التلاميذ الصغار ماهو الاّ ترجمة واقعية لما يدور في بيوت الناس من قناعات يستقيها الأطفال لترسخ في ذواكرهم وافهامهم، وهم بالقطع لا يلامون على كل الذي يبدر منهم لانتفاء الوعي والادراك لديهم، إذ اللوم جله يقع على الأسرة والمجتمع من حولهم، فما كان مني الاّ أن جلست مع المنتج والمخرج لأعطيهم انطباعاتي ورؤاي للدور الذي سأقوم به فوافقا على ذلك مشكوران…
دور سيدني بواتييه هذا رأيته بأم عيني في سمتِ البعض من أساتذتي ممن عانوا الأمرين تعاملا مع صنوف من زملائي التلاميذ والطلبة، لكونهم بذهنيات وخلفيات متباينة، وقد قدر لي الدراسة في مدارس عديدة ومناطق مختلفة من مدن وقرى السودان نتاج أسفار اكتنف عمل الوالد الذي كان يعمل في الحقل الطبي (مساعدا طبيا) إلى أن لقي ربه مشمولا برحمة الله وغفرانه بحول منه ومنة…
ولان تساقطت صورٌ لوجوه عديدة لاساتذة ساهموا في تشكيل وجداني فإن وجه أستاذي الفاضل- ابن الاراك الحبيبة إلى النفس- (عوض عباس)، لم يزل في الخاطر كالبدر ينير منّي الوجدان ومن ثم الدروب، إنه لعمري رجل يصفه قول الذي قال:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أولٌ وهي المحلُّ الثاني
فاذا هما اجتمعا لنفس حُرّة
بلغت من العلياء كل مكان
وهو أيضا كم يصدق فيه قول الشاعر إذ يقول:
قم للمعلم وفِّه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
فقد كان -أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية والرضوان- يلج الى الفصل ويسأل عن الحصة ثم يقوم بتدريسنا اياها، علوما كانت أو لغة عربية أو انجليزية أو رياضيات!…
لقد تعلمنا على يديه كيف يكون تمام التوحيد، وأنّى للمرء بأن يتصالح مع نفسه، فالرجل برغم كونه معلما للرياضيات الاّ انه علمنا أسس التلاوة، وشرح لنا مبادئ التجويد، وحينها لم يكن التجويد مقررا في مدارسنا، بل لم يكن معلوما إلا لقلة…
ومن الوجوه كذلك وكيل مدرسة كريمة الثانوية في ابتدارات الثمانينات الأستاذ والمربي الفاضل إبراهيم أحمد طه، والذي اعتاد الناس تسميته (التكاسي) رحمه الله وجعله من أهل الفردوس الأعلى،
استاذ ابراهيم هذا حدثت لي معه قصة طريفة عندما عدنا من الإجازة التي تسبق ولوجنا إلى الصف الثالث الثانوي حيث يوزع الطلبة -ولا اقول يتوزع- إلى المساقات الثلاث عملي (رياضيات وأحياء) وادبي، فإذا بي أجد اسمي قد أدرج مع أهل المساق العلمي رياضيات، فما كان مني إلا أن ذهبت إليه في مكتبه أشكو فقال لي:
– يعني عاوز تمشي علمي أحياء
فرددت عليه بأن لا، عاوز امشي أدبي…
فذهل الرجل لاجابتي وطلبي وهو يعلم امتيازي في المواد العلمية، وظل يحادثني لاعدل عن قراري، وعندما تبين له اصراري على ذلك طلب مني الذهاب إلى الفصل ووعدني بأن ينظر في الأمر، واذا به يذهب إلى والدي الذي كان يعمل مساعدا طبيا في مستشفى كريمة ويخبره بالأمر، ثم استطاعا سويا اقناعي بالتحول إلى المساق العلمي (أحياء)، وإذا بي اليوم من أهل الكيمياء…
استاذ ابراهيم احمد طه هذا رحمه الله، اشهد بأنه من اكفأ الإداريين الذين مروا على مدارس السودان الثانوية، وهو من قبل ذلك معلم مافتئت صورته محفورة في أذهان كل من علمهم اللغة الإنجليزية في مدرسة كريمة الثانوية وسواها.
وكذلك من الوجوه التي رسمت في مخيلتي ولا اخالها تمحى، الأستاذ (قرشي)، معلم الكيمياء في مدرسة سنار الثانوية والذي كان له الفضل من بعد الله في أن يحبب الكيمياء إلى جل طلبة المدرسة ممن درس المساق العلمي، فإذا بها تصبح مهوى قراءاتي وموئل تخصصي ومن ثم مصدر رزقي إلى يومي هذا.
والأسماء كثر ولولا خشية الإطالة لعددت الكثير وكلهم كانت لهم بصماتهم الوضيئة على وجدان تشكل إيجابا بحمد الله، فكانوا العون الأكيد للانتشار في الأرض لنبتغي من فضل الله في عوالم حياتنا العملية، وها قد بقى من العمر أقل مما مضى بكثير، فالله أسأل لهم الرضى وطول العمر لمن لم يزل على قيد الحياة، والرحمة والمغفرة لمن مضى إليه راضيا مرضيا.
adilassoom@gmail.com

عادل عسوم