محمد المكي إبراهيم يتوقع الحرب الحالية قبل عشر سنوات

محمد المكي إبراهيم يتوقع الحرب الحالية قبل عشر سنوات

محمد المكي إبراهيم : مازلت معارضاً ولم أقابل بحفاوة رسمية عند عودتي للبلاد
الخرطوم – صباح موسى

من (المحقق):

برحيل الشاعر والأديب والدبلوماسي والقانوني محمد المكي إبراهيم تكون البلاد قد فقدت قنديلاً من قناديل العطاء الباذخ، وركناً أصيلاً من أركان الثقافة في السودان. رحل عنّا بجسده وسيبقى أثره باقٍ فينا ما حيينا، والحوار أدناه بعضٌ من أثره الطيب، نُشر بصحيفة (اليوم التالي) قبل عشر سنوات، ننشره في (المحقق) اليوم لنشارك القارئ الكريم شيئاً من إبداعات الراحل ورؤاه، ونظرته الثاقبة في وزن الأمور.

_______

لا تحتاج صحيفة ما لتبرير الوقت الذي يحل فيه محمد المكي إبراهيم ضيفاً على صفحاتها؛ فهو شاعر رسم لنفسه طريقا يناضل فيه بالكلمة، عبّر عن ثورة الشعوب بوصفها تغييرا حتميا؛ وذلك في قصائده عن ثورة أكتوبر، ولا زال هم التغيير الذي يطمح إليه أمنية يسعى إليها بعد هذه السنين الطويلة.. تجده متنازعا بين شخصية الأديب المرهف، والسياسي المعارض، لتنتصر النزعة السياسية في دهاليز ذاته، أخذته الغربة طويلا وبعيدا، عاد مجددا والأجواء التي خرج منها هاربا لم تبرح مكانها. هو محمد المكي ابن مدينة الأبيض، (صرة العالم) طبقا لتعبيره، يعود مرة أخرى وتشعر به وكأنه لم يخرج من السودان.. كان يمكن للمكي ألا يكمل تعليمه النظامي لولا إصرار والده.. في هذه المقابلة مع (اليوم التالي) يقول إن لديه ولدين أحدهما داعية إسلامي وآخر متشدد دينيا، لكنه متصالح مع توجههما رغم تناقضهما مع أفكاره وانتماءاته.. حكى وتذكر صرخة البدايات، ممتطيا جواده في دروب سنينه، عكست حكاياته شعورا ببرودة الغربة، فعاد ليتدثر بعباءة الوطن بصرخة قد تكون مختلفة هذه المرة… فإلى حوار فوق العادة مع رجل مختلف.

نريد أن نتعرف على الطفل محمد المكي إبراهيم؟

الطفل الذي كنته، ولا أتذكره كثيرا!! الآن أسمع من الروايات أنه كان مختلفا عن إخوته في الشكل… في لون البشرة، كانوا يقولون له أنت لست ابننا، إذ كانوا أفتح مني، كانوا يمزحون معي ويقولون لي: “وجدناك في الطريق وربيناك”. كنت أعيش في مدينة كانت هي صرة العالم كله بنظري، لم أتذكر هذا الأمر إلا مرة واحدة، كنت في هولندا وأسير على جسر، ومعي أحد أصدقائي، وعلى الطريقة السودانية كنا نأكل عنبا في الشارع، فتوقفت فجأة وقلت لنفسي: من أتى بي إلى هنا؟، وكان ذلك في عام 66، فما الذي أخرجني من هذه المدينة الصغيرة وأتى بي إلى هنا؟، بعد ذلك شعرت أنني يجب أن أتأقلم على أي مكان أسافر له وأحاول أن أحبه، وأعتقد أن سبب تعاسة للإنسان أن يكره البلد الموجود فيه، لم أكن ملزما أن أحب كل بلد، لكنني أعتقد أنك إذا أحببت البلد الذي تعيش فيه، فسوف يحبك أهله. تلك المدينة غرست فيّ محبتها وأفكارها وبساطتها.

حدثنا عن الأسرة..

أنا من عائلة صوفية تسكن على بعد 50 مترا من القبة وهي ضريح الشيخ الكبير، ويومين في الأسبوع تبدأ (الليلية)، وهي حلقة الذكر، ومع الضربة الأولى أسمع من داخل بيتنا، ونحضر كل الطقوس، من مدح الشيخ، وأشعار الشعراء الذين كتبوا عنه، والغريب أن معظمهم مصريون، ثم بعد ذلك يكون استماعنا لبعض قصائد الشيخ، ثم الذكر الذي يتحول من طبقة بعد طبقة إلى أن يصل الشخص إلى درجة المجاذيب.. كان لأبي أكثر من زوجة، توفيت الأولى في الولادة، وأخرى انفصل عنها، وثالثة وله منها أبناء، ووالدتنا ونحن ثلاثة أنا وأختان، إحداهما ماتت في عز الشباب دون الخمسين، وبقينا الآن أنا وأختي حنان.

ماذ كان يعمل والدك؟

والدي كان كثير الأسفار، كان يعمل تاجرا، وتعرض لكارثة قبل ميلادنا، كان لديه دكان احترق، واضطر أن يعمل سمسارا مع التجارة، ويذهب في إلى البادية وهي وطننا الأصلي ووطن أجدادنا، وكان يزرع ويبستن، وكان عنده بنتان وولدان إخواني من أبي هناك، كان والدي رجل طيب، وله علاقات بمثقفي المدينة، كان يفاجئني أحيانا بأبيات من الشعر، وبعد 30 سنة أجد هذه الأبيات، وأستغرب كيف كان يتحصل عليها.. أتذكر عند وفاته، كنت في باريس في بعثة وأنهيتها في يناير 68، وودعت الناس في السفارة في طريق عودتي، وقالوا لي والدك توفي، قابلتني مشاكل كثيرة حتى أحضر (البكا)، حاولت أن أجد طائرة للقاهرة ولكن كانت هناك عواصف، ولم أتمكن، وسافرت إلى بيروت وكانت الحمراء يغطيها البحر، كان الطقس سيئا، وظللت يومين هناك مع مصحف صغير، ثم توجهت للقاهرة، ولم أجد أيضا طائرات إلى الخرطوم، في الأخير وجدت طائرة إلى أديس أبابا، ثم إلى الخرطوم، كانت الرحلة طويلة ووصلت متأخرا جدا، لكن عندما وصلت الأبيض أعادوا المأتم من جديد.

هل كان والدك يقصد أن يضعك في أجواء الشعر؟

لم يقصد، لكن أحيانا كان يقرأ لي أبياتا، وكانت له علاقات بالمثقفين في المدينة، وكانوا يحفظون الشعر، أحيانا كان يطلب مني أن أقرأ له أشياء، وأتذكر مرة طلب مني أن أقرأ له الوعد الحق لطه حسين، وكان يبكي أثناء القراءة.

هل كان يكتب ويقرأ؟

لم يكن يجيد ذلك جيدا، ومرة كتب فشعرت أن خطه جميل جدا.

ماذا تعلمت منه؟

حب العلم، لأنه كان يقدر ذلك، ودائما يقول لي بفخر: “أنت طالب علم”، وكان يمكن أن أتوقف عن الدراسة مثل كثير من الشباب عند مستوى معين حتى أتحمل معه المسؤولية، ولكنه كان يرفض بشدة، ويصر على أن أستمر حتى النهاية.

ذكرياتك عن المدرسة؟

أتذكر وأنا في المدرسة الوسطى، كنت أتوقع أن أكون من العشرة الأوائل، طلعت 29، كانت نتيجة سيئة جدا بالنسبة لي، فقررت ألا أعود للدراسة ثانية، لكن والدي كان مصرا على التكملة، وعندما دخلنا لنرى النتيجة قال له أحد أقاربنا، يا إبراهيم ود علي، ولدك بليد، تدفع مصاريف كاملة (كانت 12 جنيها وقتها) وكانت ثروة يمكن أن تزوج ثلاث سيدات في ذاك الزمن، فقلت نترك، ولكنه رفض، لكن بعد ذلك تحصلت على المجانية بمجهود فردي، وعندما انتهينا من الوسطى و(سأذهب للثانوية) قلت له أتوقف! فرفض أيضا، كنت أقول يمكنني عن طريق القراءة أن أكسب المعرفة، وأجد وظيفة وأساعد والدي ولكنه رفض.

بالطبع أحببت القراءة.. من أين كنت تتحصل على الكتب؟

كنت أحبها بشدة، في البداية كنت أشتري الكتب، لكن بعد ذلك اكتشفت مكتبات خاصة من ضمنها مكتبة رجل قبطي ممتاز بسيرته، لأنه دائما كان يحب العلم، وكان من النوع الذي يجرب أي حاجة، أتذكر أنه أخذ توكيل صابون (تايد)، وكان يوزعه على البيوت ويرميها من فوق الحيطان حتى يجربوه، ولكن لم ينفع ذلك معه، فترك الأبيض في ما بعد، وفتح مكتبة للكتب الإنجليزية سماها دار أمون، كان يبيع الكتب بأسعار زهيدة جدا، ومرات لو أتيته تشتري مثلا 4 كتب ومعك ثمن 3 فقط، كان يبيع لك، كان يسكن بجوارنا، وكان أولاده يعطونني كتبا ومجلات أقرأها، فأجد أنه عنده هوامش بخط جميل، وتعليقات في محلها، لم أنس في سنة من السنين أن جريدة المقتطف، كرسّت عددا كاملا لمحمود محمد شاكر، وهو عالم لغوي كبير، ونشرت فيه كتابه عن المتنبي، وكان الكتاب مثيرا للجدل، وهاجم طه حسين في ما بعد واتهمه بأنه سرق منهجه وطريقته في الكتابة، كان هذا الرجل صاحب المكتب له رأي جميل جدا في هذا العدد، وبعد زمن وجدت نفسي متفقا مع آراء هذا العالم القبطي.

وماذا في ذاكرتك عن والدة محمد المكي إبراهيم؟

أمي كانت صوفية ومدبرة وكان لديها اهتمام عميق بالتعليم، رغم ما قلته عن الوالد، لكنها كانت أكثر منه اهتماما، كانت تحفظ أورادا وقصصا وتاريخا، وعلى صلة مستمرة بالقبة، وأخذتني يوما من الأيام، وقالت لي لابد أن تذهب للروضة، أذكر أن الروضة كانت كمية من البروش يجلس عليها التلاميذ من 4 و5 سنوات، وكل طفل بعاهاته الخاصة، أمراض جلدية في الرأس، وفي الشعر، ومراهم صفراء عليها، وكنا نجلس ويأتينا الأستاذ أو نقرأ القرآن، وأيضا أخذتني والدتي للخلوة أو الكتابّ، والى الروضة وجلست بها 3 شهور وحين بدأ القبول، دخلت المدرسة الأولية، كنت سعيدا فيها جدا، وكنت أحب زملائي، في البداية كنت شقيا، ولكن بعدها صرت هادئا، وكنت ألعب الكرة، وكان عندي فريق من أولاد حارتنا وأنا رئيسه وخططنا لمعارك مع أولاد الحارات الأخرى، وكان ذلك مستمدا من قراءاتي.

هل كانت للأسرة انتماءات سياسية؟

الأب من قبيلة الجوابرة، والأم من قبيلة الدوفار، كانت لهم مملكة تاريخية في الشمال، وكانوا أقوياء، الاتحاديون من عندنا، فجد إسماعيل الأزهري وهو إسماعيل الولي كان من كردفان وهو قريب لوالدتي، ولفترة كان خليفة السيد ميرغني، وكانت له صداقة شخصية مع السيد عبد الرحمن المهدي، وكنا على علم بأن هواه مع الأمة، وأزهري يعتبر ابننا، فحدثت مشاكل، ففي ناس أصبحوا حزب أمة من عشيرتنا، وفي ناس استمروا مع ابننا محرر السودان، ووالدي كان مع الاتحادي.

ماذا وجدت في كردفان بعد هذه الغربة الطويلة، وهل بحثت فيها عن شيء كان بداخلك؟

أنا غبت عن كردفان حوالي 50 عاما، فكنت أعمل في السلك الدبلوماسي قبل الاغتراب وكنت أسافر أيضا كثيرا، عندما وصلت مشيت بعض المآتم، عندما توفي خالي، وذهبت للأبيض، كان لدي شعور جارف بأن أعود إلى الأبيض وأعيش فيها، لكن عندما ذهبت، وجدتها تغيرت بالكامل لم يبق منها إلا القليل، حتى القبة تغيرت، فقد كانت أمامها ساحة كبيرة جدا، نفطر فيها في صباح العيد، وأصبحت دروبا صغيرة توصل لبيت الخليفة، هناك تغيرات كثيرة، وكانت فيها غابات كثيرة جدا، كنا نصطاد فيها الطيور، وأيام الخريف نتسبح في البرك، لا وجود لهذا الآن، كله راح.

تحولت للأحسن؟

لا، كانت أحسن في الماضي، كان هناك مجرى مائي (الخور)، أصبح الآن مكبا للأوساخ.

تغير الشعور بالعيش في الأبيض؟

لا زالت الرغبة موجودة في العيش هناك، لكن أحب أن أعيش فيها كمدينة، أما قرية الطفولة فقد راحت. كانت لدينا منطقة بها مزارع، كنا نزرع فيها، وكان هناك بركة اسمها بركة السيد الميرغني كانت جميلة ومحفوفة بالأشجار، ومرات كنا نسبح فيها رغم أنه كان ممنوعا، كله اختفى، الآن تحولت لمخازن ومصانع، أفكر أن أعود وأجلس هناك في خلوة أو مزرعة ببيت واسع وأحيط نفسي ببستان به أشجار أحبها من التبلديات، عشيرتنا على بعد أميال من الأبيض، وهناك واحة اسمها البشيري، بها سلسة من الكثبان الرملية جميلة جدا تتشكل كل صباح، مرة تجدها بشكل هلال ومرة هلال مقلوب، فالهواء يشكلها، وأجدادنا زرعوا فيها النخيل، والعنب والتين، وتحفر 3 أمتار فيها تخرج المياه، وذهبت لها الآن وجدت عدد اقليل، لكن شعرت أنهم نساء ورجال عظماء، لأنهم جلسوا في هذا الوادي، ومنعوا الرمال من تغطيته، حافظوا على كل التراث والتقاليد، وصلينا الجمعة في المسجد، وبعدما رجعنا أكرمونا بالمديح ونحن نسير إلى منزل العمدة، نتغنى بالأناشيد بما يسمونه (السفينة والسفائن)، وتناولنا الغداء ودخلنا الحوش على سيدات القرية، ونساء وقريبات العمدة، وقامت سيدة جميلة ومدحتني بقصيدة، كان شيئا مؤثر جدا، وذهبت إلى منزل والدي، وجدته محطما، والقرية أصبحت مهجورة، ونبتت بها أشجار عالية، وبقايا من النخل لم تلقح، ذكريات جميلة جدا، كانت آخر زيارة لي لهذه القرية قبل حوالي 40 سنة، حركت في هذه العودة ذكريات، وأثارت شجوني، فهي مربوطة بأشخاص قريبين مني، هنا أخوالي وهناك كانت حبوباتي الكريمات، لكنني أثق أنها حياة ذهبت، تبقى في القلب والذكرى فقط، والحياة الجديدة يجب أن نتفاعل معها، ورأيت أن الطريق سيئ، وفكرت إذا أتيت إلى هنا وأريد أن أجلس وأكتب فلا كهرباء للكمبيوتر، قلت: هل أعود للورقة والقلم؟ فلن أجد طريقة للكمبيوتر، حكيت هذا الإحساس للوالي، وهو رجل ذكي وعنده فراسة نادرة، فقال لي إنه يفكر أن يمدهم بالكهرباء، وبشرني أكثر من ذلك بأنه قد يمهد الطريق، المسافة بسيطة ولكنها صعبة، فلابد أن يعيش الشخص عيشة حضارية مع الأهل، وأن يدمجهم أيضا في هذه الحياة الحديثة.

كيف كان شعورك عندما خرجت للخرطوم أول مرة؟

أولا، أنا من مدينة، لكنها أصغر من الخرطوم، وكنا متشوقين نصل الخرطوم، وكنت قد زرت الخرطوم قبلها، ورجعت أحكي للناس عن جمالها، وعن الحلوانية والسجاير التي شربناها من الخرطوم وكأنها مختلفة، والناس الذين قابلتهم ومنهم (ود نفاش) كل الأطفال يعرفونه، وهو أشهر كوميديان في الأربعينيات، وكان هناك مكان اسمه حدائق الأمم المتحدة في قلب الخرطوم كانت جميلة جدا، منجلة ومروية دائما، وتشوقت بعد هذه الزيارة أن أعيش في الخرطوم، وتم قبولي في الجامعة، كنت أريد أن أذهب إلى الهندسة، ولكنني لم أمتحن مادة الرياضيات الإضافية، كنت السادس على السودان وأخذت 9 علوم وكان الحد الأقصى، وتوجهت للقانون، وبعد السنة الأولى، جاءتني أخبار بأن الكلية ستصبح خمس سنوات، كانت كارثة بالنسبة لنا، فأنا دخلتها على أنها خفيفة حتى أتخرج سريعا، أصابني إحباط شديد، وكانت السنة الثانية جميلة جدا، وأتذكر جاءنا الترابي.

هل كان الترابي أستاذا لك بالكلية؟

نعم، ودرسنا شهرين قانون جنائي، وهو من المواد السهلة في القانون، كان الترابي مدرسا حيا يلبس القميص ذا الأكمام القصيرة والطويلة والبنطال، فقد كان عائدا من أوروبا، كان يعامل على أنه أستاذ نابغة.

كيف كنت ترى أستاذك الترابي إبان دراستك الجامعية؟

كنت أراه رجلا يفهم، لم يكن قائدا سياسيا وقتها، كنا نتوقع أن يندمج في الدراسات القانونية، وجدنا نفسنا منغمسين في هذا العلم القانوني، وكنا متوقعين أنه سيقول رأيه في مسائل قانونية معينة، وكنا نتوقع أن يصبح علامة في القانون، ولكن للأسف، لو يسعفني التعبير، ترك هذا المجال ولم يضع فيه بصمات كافية، وأخذته السياسة، وكان الإسلاميون لهم مرشد هو الأستاذ الرشيد الطاهر، ودخل في مغامرة سياسية وانقلاب عسكري وحوكم بالسجن، وكان لطف امن السلطات، لأن والده كان رجلا محترما فلم يعدموه في عهد عبود، ووجوده في السجن خلق فراغا وسط الإسلاميين، وكتبهم توضح أن رؤوسهم سجنوا ولم يعرفوا ماذا يفعلون، كان هناك رجل محترم محبوب جدا اسمه مبارك قسم الله، عرضوا عليه أن يصبح زعيمهم، ورفض لأسبابه الخاصة، وعرضوا أيضا على آخرين، أما الترابي ففعلها، وذلك قبل قيام الثورة بأسابيع، ففي إحدى الندوات قام وقال كلاما ساخنا، وأصبح تفاحة ناضجة وقعت في حضن الإسلاميين، كان عنده دكتوراه، ولم تكن هذه الدرجة الرفيعة متاحة لكثيرين، كانوا يبحثون عن زعيم خلال الثورة وبعدها، صار زعيما للإسلاميين، وخاض أكتوبر كزعيم لهم، وفاوض باسمهم، وفعل أشياء كثيرة، بعضها عرقلت مسار الثورة.

ما الذي فعله الترابي وعرقل الثورة؟

كنا نريد لقيادة سر الختم الخليفة، وقيادة جبهة الهيئات أن تستمر، لم يسمحوا لها، كان الترابي متضايقا من أن الماركسيين حاصلون على وضع أفضل، وهو استقوى بالأحزاب التقليدية، وعمل من خلالها مناكفات كثيرة مع الماركسين، ولم تكن عندنا أحزاب، كنا نشاركهم في توجهاتهم ومشاعرهم، وكنا نميل ناحية اليسار، فشعرنا أن هناك إنهاء للحركة الثورية، وفعلا أنهوها، وكان له دور كبير بحلفه واستقوائه بالأحزاب التقليدية، وبعدها عادت الأمور كما هي.

هل تقصد أن ثورة أكتوبر سرقت؟

(يا ريت لو سرقوها)، كان يمكن أن ينجزوا باسمها، ولكنهم كانوا ضد أفكارها كلها، كل الشعارات التي رفعتها الثورة بالمساواة وإعطاء المرأة حق التصويت، والأجر المتساوي، كلها أنكروها، البلد كانت مستعدة لتغيير جذري، المرأة تتساوى مع الرجل نهائيا، الأولاد من سن 18 يشاركون في الانتخابات، وأشياء كثيرة، ولكنهم طردوا ثوار أكتوبر، حتى رئيسنا نفسه سر الختم الخليفة سيطروا عليه، بعدها زوجوه إحدى بناتهم، لم نكن نريد تأميم أحد، فالثورة كانت غير متحققة في برامجها، رغم انتصارها. كل هذه الأشياء والأحلام المكبوتة انفجرت عام 69 مع انقلاب النميري.

هل أيدتم انقلاب النميري؟

نعم، أيدناه بشدة.

هل تؤيد الأحكام العسكرية؟

لا لا.

ولماذا أيدتم نميري، هل لأنه خلصكم من عدوكم؟

أيدنا نميري في الأيام الأولى، وخرجنا أنا والشاعر الكبير أستاذي محمد المهدي المجذوب، كنا نسير على الأقدام، على طول شارع الحرية لنصل ميدان الحرية حيث حدثت المخاطبة، ووصلنا متأخرين، وكانت من أكبر التظاهرات في تاريخ البلد، سمعنا في ما بعد أن الشيوعين كانوا مترددين في تأييده، ولكنهم اضطروا ليقفوا مع الشعب. أيدناه لأنه كان يعبر عن أحلامنا، ويتكلم بلغتنا، ولكن كما يحدث للآخرين، بدأ يخرف.

متى بدأتم تغيرون رأيكم في نميري؟

منذ عام 1974، سيطرت عليه جماعات، واقترض نميري أموالا أكثر من اللازم في 74، كانت تنهال عليه القروض، ليس لشخصه، فكان الغرب كله يحتاج لتدوير رؤوس الأموال، فشجعوه على شراء الأفيال البيضاء، وواحد منها موجود الآن في القصر بشارع الجامعة، كان يريد أن يقول إنها نصب للوحدة الوطنية، ولم تكن لها معان ولا أي شيء، وأنشأوا مصنعا اسمه الكناف، والأرض نفسها لم تنبت الكناف، فوجهت هذه القروض لأشياء سرقت، وعمل مصنع نسيج في شندي، وكان غير معقول في مكان ليس به قطن، وأيضا في ملوط بالجنوب مصنع للسكر، إلى الآن هذه الأشياء في صناديقها الخشبية، كان إهدارا للمال بشكل غريب، سرقوه من حوله وكانوا يغدقون عليه بالثناء بعدها، وأصبح التفاهم معه صعبا، كان يجتمع بعبد الخالق محجوب من الماركسيين، ويطلب منه تأييد انقلابه ثم عاد وقتله بعدها.

تخرجت في كلية القانون كيف التحقت بالعمل الدبلوماسي؟

بعد التخرج التحقت بمكتب محاماة، وكنت أباشر بعض الأشياء، لكن حدثت كارثة لمكتبنا، فشعرت أن المحاماة مهنة ليست لي، فذهبت لمكتب آخر لصديق، لكن كنت أشعر أن هذا ليس عالمي، وكان هناك تقديم للخارجية وزملائي قدموا قبلي بثلاثة أشهر، وكلموني، فقدمت وأخذوني، وبعد أسبوعين أرسلوني لفرنسا، فشعرت أن هذه حياة ألطف وأقرب لعالم المعرفة والعلم، وأنا أحب اللغات جدا، وقبل تخرجي ذهبت إلى ألمانيا، وقضيت فيها حوالي عام ونصف، فأنا أتحدث الآن فرنسية إنجليزية وبعض بقايا الألمانية وعربية، ومن خلالها يستطيع المرء السفر ومعايشة الشعوب ويتعلم ويقرأ، ورغم أن الخارجية كانت عالمي، لكن كانت بها المحسوبيات والتدافع، وأنا لا أحب هذا الأمر، وأعتبر نفسي ظلمت بها، فأنا أول شخص تعلم الفرنسية، ولدي بها شهادة، لم أذهب في عملي الدبلوماسي إلى أي بلد يتحدث الفرنسية، وكان ذلك بعد نميري، فقط عندما يأتي ضيف، أجلس وأترجم له، لكن عندما يأتي النقل لباريس وغيرها يسفرون أناسا لا يعرفون تلك اللغة، إلى أن أوشكت على نسيان الفرنسية قالوا لي: روح باريس، وقرأت الفرنسية من جديد.

متى تزوجت؟

تزوجت سمية، وكانت طالبة في تشيكوسلوفاكيا وكنت دبلوماسيا بها وكان عمري 27 في عام 1968، وتزوجنا، وأثناء تجهيزنا لمراسم الزواج، نقلت إلى نيويورك، وكانت الظروف الاقتصادية في السفارات سيئة جدا، ففضلت أن أترك نيويورك، وآتي للسويد وقضينا بها سنة، وأنجبنا بنتنا الأولى واسمها داليا، وكان هناك عالم نبات سويدي ذهب للمكسيك واسمه دال، واكتشف زهرة سموها داليا، وسميت ابنتي بهذا الاسم، واكتشفت بعدها أنه اسم مشهور، ورجعت إلى الخرطوم وعملت في مكتب الوزير لفترة.

هل لديك أبناء آخرون؟

نعم، عندي كمال، ويعمل الآن داعية إسلاميا، ولديه عشرات الصفحات على النت، يمكنك أن تبحثي عنه باسم كمال المكي، وهو داعية حلو جدا، ولست حزيناً، أنا مبسوط به.

كيف يكون لمحمد المكي ابن إسلامي وداعية، أليس ذلك غريبا؟

ولد كمال وعاش بالخارج؛ وعمل بالترجمة، فاستغلوا موهبته، وكان يحاول مخاطبة الإسلاميين بأشياء عرف أنها أشياء صحيحة، هو وسطي وضد التشدد، ويحكي النكات لمستمعيه، متزوج ولديه أولاد كثيرون، أيضا عندي ابني ابراهيم، وهو حبيبي، وسيأتي للخرطوم يريد أن يتزوج من السودان، عنده 37 سنة يريدها محجبة، وهو أيضا إسلامي جدا وبطريقته الخاصة، وهو ملتح وكذلك كمال، إبراهيم مرة تشاجر مع إسرائيلي في المدرسة، وتصارعا بشكل فظيع، وعاد ووجهه متورم، وأيضا كان الإسرائيلي كذلك، فهو متعصب لعالمه.

عندما يكون أولادك إسلاميين يكون الإسلاميون جيدين في نظرك، أما الآخرون فهم أعداء أليس في ذلك تناقض؟

(ضحك عاليا).. أنا نفسي صوفي.

لديك أبناء آخرون؟

عندنا جوهرتنا لولوا وهي مولودة بالسعودية وأعطيناها اسما سعوديا، نالت الماجستير في هارفارد وتنوي أن تنال الدكتوراه، وهي وداليا متزوجتان من أمريكيين، وهي موهوبة وتكتب جيدا، الخامس هو خالد، كان إسلاميا.

ماذا فعلت في أمريكا من الإنتاج الأدبي؟

أول أيام كانت معنا مدخرات وانتهت، وصعب جدا أن تلاقي عملا في أمريكا، دخلني هلع أنه لابد أن أعمل، وعملت بالترجمة في شركة، وترجمت كل برنامجهم للغة العربية البسيطة السهلة، وأثناء ذلك عملت مع الأمم المتحدة، وأرسلوني إلى العراق، للتفتيش على السلاح.

كنت ضمن فريق التفتيش عن الأسلحة بالعراق؟

نعم، وفتشنا كل مكان في العراق.

هل وجدتم أسلحة؟

لم نجد أي شيء، كانت كلها أكاذيب، فتشنا كل مكان، ولم يكن عندهم شيء، ولا حتى الجرثومية ولا شيء، صدام كان يدّعي أنه عنده أشياء ولم يكن عنده شيء.

ماذا فعلت بعدها؟

بعدها عملت مع القطريين، مستشارا لسفيرهم في واشنطون، لكن العرب لا تتعلم حاجة معهم.

هل كتبت شيئا في هذه الزحمة؟

كتبت أشياء بسيطة في الغربة.

كنت مختلفا مع الحكومة الحالية، وخرجت وعدت، وهي موجودة أيضا، ما الذي تغير؟

لا شيء، أرى أن هناك هجمة على الحريات أفظع من 89.

ولكنهم رحبوا بك واستقبلوك بحفاوة؟

لم أقابل بحفاوة رسمية، وإنما شعبية. فقط في كردفان قاد الوالي حملة التكريم وهو قريبي وله ألف حق في ذلك.

كانت لك حقوق في الخارجية هل تحصلت عليها؟

نعم، حقوق معاشي، ولكنها ملاليم بسيطة سأنتزعها رغم أنها لا تساوي شيئا.

ماذا تنوي؟

سأجلس فترة في الخرطوم وأخرى مع أولادي بأمريكا، سأجعل الخرطوم مقرا أنطلق منه في أسفاري التي ستكون خاصة بعد ذلك، سأسافر وأعود إليها.

هل تعتقد أن المناخ الموجود الآن يمكن أن ينتج ثورة؟

لا، لكن أخشى أنه بفعل الحكومة ستكون هناك حرب أهلية.

الحرب موجودة منذ زمن؟

نعم، لكن أهل وسط السودان لم يشاركوا فيها، هي في الهامش فقط.

هل تحب أن تتكرر تجارب الربيع العربي بالسودان؟

لا أحب، لكنه سيحدث رغما عن الجميع، وستحدث أفظع من الربيع العربي.

وكيف ترى الحوار الوطني، ألا يمكن أن يجنب السودان ذلك؟

لا يوجد حوار؛ فهنالك ضغط متواصل على الحريات، ولذلك لا أرى سوى شبح الحرب الأهلية.

مازالت لديك ميول المعارضة؟

نعم أنا معارض، ولدي علاقات مع كل الأحزاب، أميل للصادق المهدي وأحترم أفكاره، وأعتقد أنه أكبر مفكر سياسي في السودان، وأتعاطف مع حزب البعث السوداني، وأعطف على الشيوعيين في محنتهم الحالية، وأتعاطف مع (السائحون)، حتى مع غازي صلاح الدين، وعبد الوهاب الأفندي والطيب زين العابدين، مع الإصلاحيين، دون تفضيل أحد على أحد، وأتمنى أن يعيدوا الديمقراطية التي نتمناها.

وماذا عن الترابي؟

الترابي تقدمت به السن، وأعطف عليه كشيخ، وأتمنى له شيخوخة هانئة بعيدا عن السياسة، لم أعد أرى فيه أي تفوق سياسي.

وكيف تراه على مر تاريخه؟

دوره سيئ جدا في تاريخ البلد، وأدخلها في مطبات ومآزق، لم يكن متوقعا من رجل تلقى تعليمه في الخارج أن يصل إلى هذا المستوى، معظم فكره تحول إلى مغالطات. ولكنني أحب تجديده الديني: إمامة المرأة وشهادتها في المحاكم، وسوف يحفظ له التاريخ سبقه في تلك المجالات.

أسماء في حياتك تأثرت بها وأثرت فيها؟

لست من أنصار الاتباع، إنما من أنصار الإبداع، تأثرت بكثير من أساتذتي، وقابلت رجالا خارج المدارس وخارج دواوين الحكومات وعلى رأسهم أستاذي محمد المهدي المجذوب، ولي صداقات كثيرة مثل كمال الجزولي وإلياس فتح الرحمن ومحمد عبد الحي، والنور عثمان، حرمتنا الأيام من بعضهم، وكنا نمثل مثلثا وهذه الصداقة عاشت قرابة 40 سنة.

مدارس شعرية وقفت عندها؟

كنت أحب عبد الوهاب البياتي، سمعت عن انتقادات المثقفين له، ولكني أعتقد أنه أول من بدأ التحديث في الشعر، كنت أحب صلاح عبد الصبور والتقيت به أكثر من مرة، كان يمكن أن يصبح شاعرا كبير جدا على مستوى العالم، كما التقيت جابر عصفور، وأعجبني جدا.

هل وقفت على تجارب شابة في السودان في الشعر؟

ليست هنالك دواوين كثيرة، كنت بعيدا وحرمت من الاطلاع عليها.

الحب في حياتك؟

أحببت زوجتي فقط على مدى 45 عاما، وهي ملكة تستاهل كل شيء، وتشاركني كل شيء، وهي جميلة جدا، ومازلت معجبا بها.

كلمة أخيرة؟

نحن في العالم العربي نحتاج إلى رموز وقصص نجاح، والنجاح له مائة والد والفشل يتيم، نتمنى أن نرى النجاح في أي مكان في مصر أو الجزائر أو السعودية والخليج والسودان، نريد أن نرى نماذج من الحوكمة الناجحة، لا نريد حكومات تشرف على جوعنا وجهلنا وموتنا، نريد شيئا يثير الأمل للمستقبل، فأنا لست سعيدا بما أشاهده في كثير من البلدان، وعلى رأسها السودان، نحن كنا سيئين الحظ، ولا نريد لأولادنا أن يكونوا أسوأ، ولكن كل الدلائل لا تشير إلى أنهم سيعيشون في سعادة، المسؤوليات تحتم علينا عمل شيء والإقدام على أي تضحية، والاستعداد الكامل لأي تضحية، إذا كان من شأنها أن ترفع هذه البلاد إلى مقامات الديمقراطية والتعددية والشفافية الناتجة عن ذلك. سئمنا، سئمنا من هذا التاريخ المليئ بأسماء الأقزام والديكتاتوريين ورفقاء الحجاج بن يوسف.

Exit mobile version