صُناع الموت!!

تابعنا في الأخبار أن السلطات السودانية ألقت القبض علي 105 مرتزق ، جاءوا من 12 دولة وشاركوا في الحرب التي اندلعت في السودان صباح السبت 15 أبريل 2023 ، وتفيد الأنباء أن التحريات معهم مستمرة.

ونذكر هنا أن منصات إعلامية محلية وعالمية كانت تناولت إحصاءات حول مشاركة أجانب دفعت بهم المليشيا للقتال في صفوفها لسد النقص الذي حدث بفعل ضربات القوات المسلحة لها، ووقوع الكثير من المرتزقة بين قتلي ومفقودين، من جهة أخرى كشف ذلك عن تورط عدد من الدول في جريمة الارتزاق.

الحديث حول المرتزقة يطول، وسنحاول في هذا المقال أن نعطي خلفية تاريخية حول وجود المرتزقة، ووضعهم في القانون الدولي، وكيف تتعاطى المنظمة الدولية مع موضوعهم.

الثابت أن المجتمعات البشرية عرفتهم منذ عهود غابرة، وجرى تعريف المرتزق بأنه من يبيع ولاءه وسلاحه لمن يدفع أكثر ، فهو يحارب من أجل المال دون عقيدة قتالية أو قضية وطنية ، ومنهم من يقاتل بمقابل السلب والنهب والاغتصاب في المدن التي يدخلها ، فمثلا عرفهم الرومان وكانوا يجندون العاطلين عن العمل واستقطاب الراغبين في القتال بمقابل مادي وبالفعل ، كونوا جيشا كبيراً من المرتزقة واستخدموهم في حروبهم وفتوحاتهم ، واستخدمهم القرطاجيون وجندو كل من يقدر علي حمل السلاح من أية جنسية فتكون جيش متعدد الأجناس وكان التنافر بينهم سبباً في هزيمتهم، و عرفهم الفراعنة القدماء ولقبوا (بالنهابين ) ورد ذلك في رسائل مكتوبة باللغة الأكادية البابلية والخط المسماري وجدت في أرشيف الفرعون المصري اخناتون (امنحوتب الرابع ) في مقر حكمه.

أما في الدولة العثمانية فقد جمعهم السلطان سليم لينهي حكم أبيه السلطان بايزيد وكان يجند في جيشه أي شخص دون النظر لجنسيته وبالفعل استولى على الحكم من أبيه بجيش من المرتزقة ، وكذلك استخدمت الإمبراطورية البيزنطية أفرادا من المرتزقة أطلق عليهم (الموكافار) من منطقة تقع على الحدود الشمالية لأسبانيا، لمساعدتها في الحرب ضد الأتراك.

هذه الصور وغيرها توضح أن المعارك كان المرتزقة هم من يقودونها بطلب وبمقابل مادي في مختلف بقاع العالم في حقب غابرة، و كان من الطبيعي الاستعانة بمحاربين بمقابل مادي في جيوشها أو بمقابل في نسبة الغنائم التي تستولي عليها الجيوش من الحرب.

إلي أن جاء شكل الدولة المعروف حديثا ، و تكونت الجيوش الوطنية وانحسرت ظاهرة المرتزقة لكنها لم تنته أو تندثر ، لأن دولا كانت تؤجر جيوشها لدول أخرى للعمل كمرتزقة مثل ما فعلت بريطانيا أثناء الثورة الأميركية (1775 – 1783 م) استأجرت جنودا ألمان لمحاربة السكان الأصليين في أمريكا.

ويمتد تأريخ المرتزقة أيضاً إلى الفترة التي سبقت الثورة الفرنسية للعام 1789م ، وكذلك حينما بدأت حركات التحرر والاستقلال في العديد من دول العالم ، ظهر المرتزقة لأن الدول الاستعمارية كانت تعتمد عليهم في إخماد النضال وحركات التحرر والاستقلال من المستعمر .

توالت الدول في التحرر والاستقلال عن المستعمر لكنها دخلت في حروب أخرى مهدت لظهور المرتزقة من جديد بصورة أخري في النزاعات المسلحة كما حدث في كنشاسا في الفترة (1962 – 1964 م ) مع قوات تشومبي ، وقاتلوا خلال الحرب الأهلية في نيجيريا إلى جانب القوات الانفصالية البيافرية في الفترة (1967 – 1970م ) ، وكذلك في الحرب الأهلية في أنغولا عام 1976م ، هذا على سبيل المثال.

أما وضع المرتزقة في القانون الدولي، فقد حددت المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الثالثة الصادرة في 12 أغسطس 1949 فئات الأشخاص الذين يجب أن يعاملوا معاملة أسرى الحرب ولم يرد ذكر المرتزق ، فهو لا يعد مقاتلاً ولا يعد من أسير حرب وبالتالي لا يتمتع بأية حماية قانونية يقررها القانون لأسرى الحرب ، وقد نص على ذلك صراحة في البروتوكول الأول الملحق باتفاقية جنيف لعام 1977 ، في المادة 1/47 نص على”لا يحق للمرتزق التمتع بوضع المقاتل أو أسير الحرب”.

كذلك اعتبر نفس البروتوكول في المادة الثانية منه “كل شخص يقوم بتجنيد أو استخدام أو تمويل أو تدريب المرتزقة وفقاً لما هو وارد في المادة الأولي من هذا البروتوكول فإنه يرتكب جريمة في حكم هذه الاتفاقية” . وأضافت في المادة الثالثة ما يلي : –

1/ كل مرتزق حسبما هو معرف في مادة 1 من اتفاقية جنيف الثالثة يشترك اشتراكاً مباشراً في أعمال عدائية أو في أعمال عنف تبعاً للحالة، يرتكب بذلك جريمة في حكم هذه الاتفاقية.

2/ ليس في هذه المادة ما يحد من نطاق تطبيق المادة الرابعة من هذه الاتفاقية، والتي توسعت فاعتبرت الشريك مرتكباً للجريمة، والشروع جريمة كاملة.

بالتالي فإن أي شخص أجنبي (لا يحمل جنسية الدولة التي يقاتل فيها) ، ويشارك في أعمال عدائية بمقابل مادي من أحد طرفي النزاع فإنه يعد مرتزقاً يحرم من صفة مقاتل ومن الحماية القانونية للأسير.

مع ملاحظة أن الأشخاص الذين ترسلهم دولهم في مهام رسمية لدولة أخرى هي طرف في نزاع مسلح لا يعد مرتزقا، لأنه يقوم بمهام كلفته بها دولته، وليس بدافع شخصي أو بغرض الارتزاق.

لكل ما سبق والذي كان له الأثر في استنهاض المجتمع الدولي للحد من أنشطة المرتزقة ، قامت الأمم المتحدة بتشكيل لجنة خاصة في العام 1980 لوضع مشروع لاتفاقية دولية لمناهضة المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم.

وبالفعل قامت اللجنة بصياغة الاتفاقية وعرضها علي الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها (44)في العام 1989 واعتمدتها في جلستها العامة رقم (72) في الرابع من ديسمبر 1989 ، ودخلت حيز التنفيذ في 20 أكتوبر 2011 .

أوضحت الاتفاقية شروطاً حتى يعد الشخص مرتزقاً أهمها :-

1/ أن يجند خصيصاً محلياً أو خارجياً للقتال في نزاع مسلح .

2/ أن يكون دافعه الأساسي للاشتراك في الأعمال العدائية هو الرغبة في تحقيق مغنم شخصي أو أن يأخذ مقابلاً مادياً من أحد طرفي النزاع .

3/ ألا يكون من رعايا طرفي النزاع ولا يكون من المقيمين في إقليم خاضع لسيطرة طرفي النزاع.

4/ ليس من أفراد القوات المسلحة.

5/ لم توفده دولة ليست طرفاً في النزاع لأداء مهمة رسمية بصفته من أفراد قواتها المسلحة.

6/ أن يعمل على تقويض نظام دستوري لدولة ما بطريقة عدوانية .

7/ تقويض السلام الإقليمي لدولة ما .

وقد سعت الأمم المتحدة من خلال لجنة حقوق الإنسان (التي استبدلت بمجلس حقوق الانسان في العام 2006) باعتماد المقرر الخاص المعنى بمسألة استخدام المرتزقة (1987 – 2005 م ) ، وعندما انتهت ولايته في العام 2005 تم إنشاء فريق عمل يعنى بمسألة استخدام المرتزقة كوسيلة لانتهاك حقوق الإنسان وإعاقة الشعوب في تقرير المصير ، فتم تجديد ولاية المقرر الخاص عدة مرات آخرها القرار رقم 42/9 الذي اتخذ في العام 2019 لمدة ثلاث سنوات إضافية .

واعتمدت الجمعية العامة قرارات خاصة باستخدام المرتزقة المتصلة بأنشطة الفريق العامل منها القرار رقم 74/138 الذي اعتمد في العام 2019 .

من جهة أخرى نصت المادة الخامسة من الاتفاقية أنه لايجوز للدول الأطراف تجنيد المرتزقة أو استخدامهم أو تمويلهم او تدريبهم ، وعليها أن تقوم وفقاً لأحكام هذه الاتفاقية بحظر هذه الأنشطة.

السؤال هنا (ماذا عن دولة تقوم بتمويل وتدريب وتقدم دعم لوجستي وأسلحة للمرتزقة ؟)

نصت الاتفاقية على عقوبات دولية تتخذ ضد تلك الدول مع الوضع في الاعتبار الطابع الخطير لجريمة الارتزاق.

علي ذات النهج جاءت اتفاقية الاتحاد الأفريقي بشأن القضاء علي المرتزقة في أفريقيا تم اعتمادها في دولة الغابون في الثالث من يوليو 1977م ودخلت حيز التنفيذ في أبريل 1985.

أيضا جاءت القاعدة 108 بالنص على “ليس للمرتزق الحق في وضع المقاتل أو الحماية القانونية للأسير وفقا للتعريف الوارد في البروتوكول الإضافي الأول للعام 1977 ، ولا يدانون أو تصدر في حقهم أحكام دون محاكم مسبقة .

نظراً لخطر المرتزقة استخداماً وتجنيداً وتدريباً وصل الأمر إلى اعتبارها جريمة من الجرائم ذات الاختصاص الدولي ، وهي من الجرائم التي تستوجب تسليم المجرمين حتى في حالة عدم وجود معاهدة تسليم مجرمين بين الدول، واعتبرت أن اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة تجنيد المرتزقة هي السند القانوني الذي يتم بناء عليه تسليم المجرمين بين الدول.

ودعت الأمم المتحدة الدول الأطراف للتعاون القضائي لأقصي درجة فيما يتعلق بالإجراءات الجنائية التي تتخذ بشأن المرتزقة، ويسري قانون الدولة التي قبض المرتزقة علي أراضيها .

دكتورة إيناس محمد أحمد

Exit mobile version