مشهد عالمي جديد يتخلق تجاه السودان ويفرز نتائجه

انتقلت إدانة العالم لدولة الإمارات على دعمها لمليشيا الدعم السريع، من مرحلة التقارير الصحفية (لمخاطبة الرأي العام) إلى مرحلة الضغط على الحكومات عبر المؤسسات لإتخاذ موقف تجاه الربط بين الأمارات وجرائم المليشيا.

في هذا المقال نذكر عدداً من هذه المؤسسات، ومناقشة هذا التطور و ما يمكن أن يترتب عليه:

أول المؤسسات وأبرزها وأهمها هو الكونغرس الأمريكي، الذي أثبتت مداولاته الرسمية، التهمة على دولة الأمارات. على لسان كل من نائبة وزير الخارجية الأمريكي مولي في، و المبعوث الأمريكي إلى السودان السيد توم بيريللو .. عدد من السيناتورات أرسلوا مذكرات بتوقيعاتهم إلى كل من الرئيس الامريكي، والرئيس الاماراتي، ووزير الخارجية الأماراتي، بخصوص الدعم المقدم للمليشيا. كما تقدم أعضاء بقانون يحظر بيع الأسلحة الأمريكية للإمارات بسبب استخدامها في جرائم دارفور بواسطة المليشيا. وقد ذكر المبعوث الأمريكي للسودان أن لجنة أمريكية رسمية تحقق في هذا الخصوص.

المؤسسة الثانية هي الاتحاد الأوروبي، وذلك عبر الرسالة الخطيرة التي أرسلها سفيره في السودان، و أوضح فيها بالتفصيل لدول الاتحاد الأوروبي، كل أنواع الدعم الأماراتي للمليشيا بالأرقام والتواريخ.

المؤسسة الثالثة هي مجلس الأمن الدولي، والذي وإن كانت الأدلة أمامه مقدمة ضمن شكوى السودان. إلا أن الأعضاء تداولوها ونشروها و علقوا إيجاباُ على حجتها و مستنداتها وتوثيقها. وقد صارت مرجعاً ومستنداً رسمياً، مبوباً ومدعوماً بجميع المعلومات والمستندات.

المؤسسة الرابعة هي صحيفة نيويورك تايمز وتقريرها الأخير، وترجع أهميتها كمؤسسة، إلى كونها تعتبر الناطق غير الرسمي باسم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وقد جاء تقريرها مفصلاً بالأرقام والتواريخ.

المؤسسة الخامسة هي وكالة الصليب الأحمر الدولية التي أدانت استخدام الإمارات لشعارها و تخفيها تحت غطاء شعار الصليب والهلال الأحمر لتدعم المليشيا.

نكتفي بهذا العدد من المؤسسات الرسمية دون أن نذكر المؤسسات الأخرى، مثل تقارير وكالات الأنباء، والقنوات الفضائية، والشخصيات المؤثرة ذات الصلة. إلا أننا نذكر الدبلوماسي الأمريكي السابق كاميرون هيدسون، الذي ظل وباستمرار يوثق لجرائم المليشيا و مسؤولية دولة الإمارات عنها و يدافع عن سيادة دولة السودان و مشروعية مؤسساته.

لن تستطيع الحكومة الأمريكية تجاهل هذا الضغط الرسمي والشعبي عليها لتتخذ موقفاً واضحاً تجاه تجاوزات دولة الإمارات. ولا تستطيع التعامي عن المعلومات والأدلة الرصينة والمثبتة التي تربط بين دعم الإمارات و جرائم المليشيا.

إذاً من المؤكد أن الحكومة الأمريكية ستنتقل إلى مرحلة اتخاذ موقف تجاه الإمارات.
و للمقارنة نذكر موقف الحكومة البريطانية حينما قدم السودان شكواه الرصينة ضد دولة الإمارات. وكيف أن الإمارات ابتزت بريطانيا العظمى حاملة القلم، حتى اضطرت بريطانيا للتلاعب إدارياً بجلسة مجلس الأمن التي طلبها السودان، فحولتها إلى جلسة سرية حتى لا تنفضح الإمارات و أجلت انعقادها عسى أن تتمكن من إلغائها مع مرور الزمن. الدرس المستفاد من هذه المقارنة هو تقديم الدول الكبرى لمصالحها على حساب أي مبادئ تتغنى بها على الورق. وأن هذه الدول ستجد الغطاء والمخرج الذي تقدمه للرأي العام.

و الآن دعونا نجاوب على السؤال الثالي: ماهي الخيارات والبدائل التي يمكن أن تتخذها الحكومة الأمريكية تجاه الإمارات ؟ .. هناك عدد من السيناريوهات نجملها في الآتي:

الأول: إجراء تسوية سياسية غير مباشرة بين السودان والإمارات بإشراف أمريكي. يتم بموجبها حشر دولة الإمارات في منابر التفاوض بين الحكومة السودانية والمليشيا بدعوى المشاركة بقدرتها المالية، وبالتالي يتم غسيل أيادي الإمارات المتسخة بدماء الضحايا إذا صارت جزءً من تسويات التفاوض. وقد أنشأت أمريكا منبر جنيف خصيصاً لهذا الهدف، إلا أن رفض حكومة السودان المشاركة في مفاوضات جنيف ورفضها قبول مشاركة الإمارات، أفشل هذا الخيار.

والثاني: أن تتحدث الحكومة الأمريكية صراحة عن ثلاثة أخطاء إماراتية. وهي الربط بين الإمارات وجرائم المليشيا. ومخالفة الإمارات لقرار مجلس الأمن الدولي بخصوص حظر تدفق الأسلحة إلى إقليم دارفور. و دور الإمارات في حصول المليشيا على أسلحة أمريكية. إلا أن الهدف الأمريكي سيكون هو ابتزاز الامارات بأخطائها مقابل أن تدفع أموالاً إلى أمريكا لتحظى بالحماية السياسية الأمريكية أمام أي تصعيد سوداني. هذا الخيار قد يبدو مفيداً للطرفين، الأمريكي و الإماراتي، إلا أن المشكلة التي سوف تواجهه هي ضغط النواب والرأي العام الأمريكي، و صدى صرخات الضحايا، وتلطخ السمعة الأمريكية بتهمة حماية الجنجويد و استمرار جرائم الجنجويد الشنيعة أنفسهم.

والثالث: أن تسعى أمريكا إلى حل وسط يربط بين ثلاثة متناقضات هي تحقيق مصالحها المادية عبر ابتزازها للإمارات، التحقق من توقف الدعم الأماراتي للمليشيا حتى يتوقف ارتكاب الجرائم وتجد ما تدعي إنجازه، وبالتالي استجابتها إلى ضغط الرأي العام ومصالحته.

تحتاج الحكومة السودانية إلى قراءة هذا المشهد. وبناء خطة محكمة للتعامل معه. وتكوين وفد مفاوض ذكي ومقتدر. وأن تتمتع بالرؤية و الإرادة و القوة اللازمة للمضي قدما في السباحة في هذا المحيط المتلاطم الأمواج رغم مخاطر التعرض لأسماك القرش. مسنودة بإرادة شعبية صلبة و جبهة داخلية موحدة.

د. محمد عثمان عوض الله

Exit mobile version