جيل الصدى: لو أراد كلب نهش الديمقراطية لما قلنا له “جر”

يسمي قبيل في مجتمع تقليدي الشيوخ منه بـ”جيل الصدى”. فهم جيل التاريخ. فإن وقع لأهلهم ما أقلق مضاجعهم وأشفقهم على حياتهم جاء هذا الجيل بواقعة من ماضيهم كأنها الصدى لما يكابدون. فيطمئن الناس بهذا الصدى أنها نازلة وتزول. فقد مرت بهم من قبل وعادت الحياة إلى سيرتها “ولم تنكسر زجاجة ولم يندلق سمن” كما نقول.
نازلة الأميركيين
يلقى كتاب “الانتخابات الأكثر اقتتالاً بين أطرافها: موعظة من الانتخابات الأكثر عنفاً في تاريخ أميركا” (سبتمبر 2024) لدانا باش، الإعلامية اللامعة في شبكة “سي أن أن”، وديفيد فيشر، الكاتب المرموق، حفاوة في الوسائط الأميركية لأنه جاء بالصدى لنازلة الأميركيين في انتخاباتهم منذ عام 2020 ومخاوفهم من عواقب الانتخابات الرئاسية الوشيكة. فالكتاب عن انتخابات حاكم ولاية لويزيانا في 1872 التي جرت في الفترة المعروفة بـ”إعادة البناء” بعد نهاية الحرب الأهلية الأميركية عام 1865 التي انتصرت فيها الدولة الفيدرالية على دولة الولايات الجنوبية الفيدرالية. وكانت تلك الولايات وقفت ضد خطة الفيدرالية لتحرير الرقيق، ولم تمنعها هزيمتها من مواصلة حربها ضد الفيدرالية انتخابياً بحرمان السود من حقوقهم المدنية حتى بعد تحررهم من ربقة الرق.
تنافس على منصب والي الولاية كل من ويليام بت كيلوغ الجمهوري، وجون مكنتري الديمقراطي، حين كان الحزب الديمقراطي يومها حزب العنصرية البيضاء، فشاع الترهيب في الانتخابات من دون تصويت السود.
وتبادل الطرفان الاتهامات بالغش والتزوير لتغيير نتيجة الانتخابات، وتشاجر الخصوم في الطرقات، بل دعا مكنتري أنصاره إلى حمل السلاح ضد خصمه. واصطرع الناس حول نتيجة الانتخابات. فأعلن كلا المرشحين الفوز بالمنصب. وعقد حفل تنصيبه حاكماً للولاية. وكان لكل منهما مجلس نوابه. وانتشر العنف من نيو أورلينز إلى أنحاء الولاية. فكانت مذبحة كولفاكس في 1873 التي قتلت فيها العصب البيضاء 100 أسود للحدّ من قوة أصواتهم. وأرسل الرئيس غرانت القوات الفيدرالية لتأمين الولاية. واستبعد الرئيس مكنتري وجعل كيلوغ الجمهوري حاكماً. وحوِّل التحقيق في المذبحة إلى المحكمة العليا التي قضت بأن الولاية، لا الحكومة الفيدرالية، من له الاختصاص في الحقوق المدنية والانتخابات. وكانت تلك الضربة الباكرة لمواطنة السود التي نالوها بالتعديلات الدستورية 13 و14 و15، فأنهت الرق في أميركا. وظلت هذه المواطنة المستعادة بحرب أهلية عاطلة مجردة في غالبها من حق الاقتراع للانتخابات لقرن من الزمان حتى نهض مارتن لوثر كينغ بدعوة الحقوق المدنية للسود في ستينيات القرن الماضي.
بين انتخابات 1872 وانتخابات 2020
لا باش ولا فيشر من جيل الشيوخ بعد، ولم يكن لأي منهما فكرة عن تلك الانتخابات التي لم يعرفوا عنها من مقررات المدارس أو غيرها. واكتشفا تلك الانتخابات المضرجة بالعنف بالبحث عنها الذي ساقهما إليه الخلاف الانتخابي العصيب في 2020 الذي امتنع فيه الرئيس السابق دونالد ترمب عن الاعتراف بفوز منافسه الرئيس جو بايدن بالرئاسة. وبلغ النزاع مبلغه المضرج القح بهجوم أنصار ترمب على مبني الكونغرس في السادس من يناير 2021.
ركزت باش وفيشر في لقاءاتهما مع الصحافة حول كتابهما على المماثلات التي بين انتخابات 1872 وانتخابات 2020، وبلغت عناصر التطابق بينهما حداً ظلا يصفانه بأنه “مخيف”، وقالا عن تكاثف هذه المماثلات “وكأن التاريخ يستصرخنا أن نتوقف ونحذر”.
وبالحق فالمماثلة بين الانتخابين مدير للرأس، فهتف أنصار مكنتري ضد كيلوغ “لنشنقه”، وهذا ما هتف به أنصار ترمب في السادس من يناير، يريدون به شنق مايك بنس، نائب الرئيس ترمب الذي لم يفزع معهم لنصرة ترمب في اجتماع مجلس الشيوخ الذي أحصى أصوات الكليات الانتخابية. ونبهت داش إلى دور الصحافة في السعار الانتخابي لاستقطابها نفسها للمنصات الانتخابية متمردةً على المهنة بتقصي الحقيقة، وهو ما أخذته على الصحافة خلال انتخابات 2020. كما انتهى الانتخابان بصورة وأخرى إلى المحكمة العليا. ففي انتخابات 2020 رفضت المحكمة العليا طلباً بإلغاء الانتخابات في ولايات وسكونسن وبنسلفانيا وميشيغان وجورجيا التي فاز فيها بايدن. أما ما يجل عن التصديق، فهو أن كيلوغ تعرض لمحاولة اغتيال كما تعرض ترمب في أيامنا. ولا تنتهي المماثلة في الاغتيال هنا. فقد أخطأت الطلقة كيلوغ عند الرأس كما أخطأت ترمب. ونزيد هنا بيتاً من الشعر بتطابق عبارة كيلوغ وترمب بعد المحاولة على حياتهما، فعبارة ترمب صدى دقيق لعبارة كيلوغ، قال كيلوغ “سمعت طلقة وشعرت في الوقت نفسه بمرور الطلقة عند رقبتي ورفعت يدي”. وصدى ذلك عند ترمب في قوله إنه سمع أزيزاً، فطلقات، وشعر مباشرة بالطلقة تخترق جلده. وكان رفع يده يهتف جريحاً كما رأيتم.
للديمقراطية صدى
الديمقراطية الأميركية مما يتداوله السودانيون جزافاً على رغم أرقهم الكبير بالديمقراطية. وربما كان في استحضار الأميركيين لتاريخ نكساتهم الديمقراطية عظة لحاضرهم مما يغري السودانيين بالنهج، طالما كانت الديمقراطية لا تزال السبيل.
للديمقراطية صدى حين تكون سيرة في الأمة لا منتجاً، وبعبارة أخرى، أن تكون مشروعاً تطلب له الإحسان كلما تقدم بك الزمن ساهراً عليه. وبطبيعته كمشروع فهو عرضة للنكسات. فانتخابات فترة البناء الأميركية بعد نهاية الحرب الأهلية في 1872 و1876 نزعت مواطنة السود لقرن من الزمان. ففي انتخابات 1876 تنازع صمويل تلدن الديمقراطي ورزفورد هايز الجمهوري نزاعاً بغيضاً أيضاً. ثم عقدت مفاوضات لفض النزاع بين الحزبين خلصت إلى حل وسط يقبل به الديمقراطيون، فوز هايز على أن يلتزم كرئيس سحب القوات الفيدرالية من الجنوب التي ارتكزت فيه لتحمي الحقوق المدنية للسود. وكانت أزعجت الحزب الديمقراطي لتلك الأيام وخرج مقاوماً لها كما رأينا. وبانسحاب الفيدرالية من الجنوب تمكن الديمقراطيون منه وحكموه بما عُرف بـ”قوانين جيم كرو” التي صادرت مواطنة السود حتى استردوها في ستينات القرن الماضي.
لا تزال الديمقراطية هي ما ينتظره السودانيون على رغم كل شيء. وصح أن يخضعوا تجربتهم في الدعوة إليها وممارستها لنظر حاذق ينفذ إلى كيف أنها، على رغم الطاقة التي بُذلت لتحقيقها، لم تدُم فيهم لأكثر من 11 عاماً من سنوات استقلالهم التي امتدت لستة عقود. ومن الجوانب المهمة لهذا النظر، ما بدا من أنهم تعاطوا معها كمنتج لا مشروع لـ”طويلة” كما يقولون. فالمنتج يُعرض للمرء، إما راقه فاشتراه أو عابه فامتنع. وامتنع العقيد جون قرنق، قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان، عن المشاركة في انتخابات 1986 بعد عودة الديمقراطية بفضل ثورة أبريل (نيسان) 1985. وقال إنه لا يريد بدخوله تلك الانتخابات تمكين الأحزاب اليمينية (حزب الأمة القومي وحزب الاتحادي الديمقراطي) التي حملتها غزارة نفرها في الريف بالشمال للحكم في كل انتخابات جرت حتى تاريخه. وعليه فلن تجد للديمقراطية السودانية صدى كمثل ديمقراطية المشروع الأميركية على رغم طول خبرة أميركا في المقام. فما يتوارد إلى السودانيين في خطابهم عن ماضي ديمقراطيتهم أضغاث أو مفازع.
لم تحدث أصلاً
وتدور هذه الأضغاث والمفازع حول محورين، الأول أن الديمقراطية ذاتها لم تحدث أصلاً. فعلى رغم أنها كانت فيهم إلا أنها كأن لم تكُن. فلم تقبل الحركة الجمهورية، بأستاذها محمود محمد طه، مقاومة معارضة الرئيس جعفر نميري (1969-1985) باسم استعادة الديمقراطية، وصرفتها كمجرد ذريعة. فقد رأى الناس، في قولهم، ديمقراطيتهم الطائفية في ما قبل عام 1969 التي كانت مجرد هياكل “فارغة المحتوى، بل إن هذه الهياكل نفسها قد نُسفت يوم عُدل الدستور (بغرض جعل الزعيم إسماعيل الأزهري رئيساً دائماً لمجلس السيادة بخلاف العرف الذي حكم الرئاسة من قبل)، وحُلّ الحزب الشيوعي، وطُرد نوابه من الجمعية التأسيسية، على أيدي رجال الحكم آنذاك”. وزادوا بقولهم إنه لم تكُن هناك ديمقراطية ما دام أن الناس صوّتوا فيها بـ”الإشارة”، أي بما يملي عليهم شيخ طريقتهم الدينية. وخلصوا إلى أنه “لم تكُن هناك ديمقراطية في يوم من الأيام حتى تتباكى عليها المعارضة اليوم. أسوأ من ذلك، كما سلف القول، كان هناك تضليل منظم للشعب باسم الديمقراطية، وباسم الإسلام”.
عقوبة مستحقة
أما المحور الثاني، فهو أن الانقلاب هو عقوبة مستحقة لاستهتارنا بالديمقراطية في مثل الخلافات الحزبية التي لا تكون ديمقراطية مع ذلك إلا بها، فهناك من يرى في الانقلاب إنهاء لنهج في الحكم لم يُخلَق للسودانيين عديمي الثقافة الديمقراطية. ولعل منصور خالد في كتابه “الحكومة التي نستحق” هو الأعلى صوتاً ومنهجاً من بين من رأوا أن انقلاب الفريق إبراهيم عبود (1958 بعد عامين من استقلال السودان) هو استحقاق السودان من الحكم. وهو كذلك بالنظر إلى إساءتنا للديمقراطية بالضجة الكبرى والخلف كما قال شوقي. فقد نجم الانقلاب في رأيه عن النزاع الشديد الذي ساد التحالف الحكومي عام 1958 بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي حتى سلّم رئيس الوزراء مقاليد الحكم إلى الفريق عبود. وسمَّى منصور هذه الحزبية المستفحلة ب،”الخبط السياسي المقلق” الذي يدل على أن “ثقافة الديمقراطية لم تتجذر في السودان” وأنها لم تتجاوز الجانب الإجرائي مثل الانتخابات والتحالفات البرلمانية والتنظيمات الحزبية الصورية. ولم يزِد منصور هنا بالطبع عن تبني نظرية الانقلابيين التي تتصدر بيانهم الأول يزعمون فيه أنهم هبوا لإساءة الحزبية إلى الديمقراطية.
ولم أجِد صدى للتجربة التاريخية للديمقراطية السودانية يعادل كلمة نعى فيها بيتر كلنر، رئيس تحرير الـ”مورنينغ نيوز” التي كانت تصدر عن دار “جريدة الأيام” في الخرطوم، الديمقراطية بعد انقلاب الفريق عبود عليها عام 1958 بإيعاز من رئيس الوزراء عبدالله خليل. وهي كلمة مطّلع ذي عقيدة غراء حسنة الظن في ثقافة السودان الديمقراطية، قال “لقد فقد السودانيون الثقة بعبدالله خليل، ولقد فقد هو الثقة بأن يعثر السودانيون على بديل أفضل منه. وظن الرجل أن إيجاد هذا البديل مناط به دون غيره. لم تفشل الديمقراطية الليبرالية لعاهة فيها. جلية الأمر أن الرجل الذي حمل على عاتقه الإحسان إليها، قد طرحها جانباً”.
هذا هو الصدى لخسارة السودان للديمقراطية، ومثله نادر أو قليل في حين تتكاثر الأضغاث.

عبد الله علي إبراهيم

Exit mobile version