رأي ومقالات

أمدرمان كيف رايتها من الداخل؟

قطعتُ مسافة 850 كلم من بورتسودان إلى امدرمان، على طريق مسفلت بالبص السياحي. مرورا بعدد من المدن منها سواكن، سنكات، هيا، عطبرة، الدامر، شندي. دون أن افيض في التفاصيل، هذه المدن تمارس حياتها المدنية اليومية بصور طبيعية بنسبة 100%.

السبب الوحيد هو أنها تحت حماية مؤسسات الدولة وسيطرة سكانها عليها وعلى منازلهم وأحيائهم السكنية. يمارسون كل نشاطاتهم بكل حرية. يقضون كل معاملاتهم في كل مكاتب الدولة المختلفة.

في هذه المدن توجد دولة حقيقية، حرية كاملة، أمان حقيقي. (هذا الوصف يتكرر أيضا في شريط من المدن على مسافة 900 كلم شمالا إلى حلفا، و مسافة 700 كلم شرقا إلى كسلا).

*أمدرمان:*
ونحن قادمون من شندي، و كلما ازددنا قربا من الأحياء السكنية شمال امدرمان، كلما زادت الكثافة السكانية، الكثافة العمرانية، كثافة العمل التجاري، كثافة العربات، كثافة نقاط التفتيش.
*تواجد الجيش:*

الجيش في امدرمان يوجد فقط في معسكراته ومنشئاته. الجيش لا يدخل مطلقا الى الاحياء السكنية. لا يسيطر عليها مطلقا. لا يتدخل في حياة الناس اليومية. لا يحدد لهم خياراتهم. الأحياء السكنية ومواطنيها يعيشون حياتهم كما يريدونها بحرية كاملة، مدنية كاملة المدنية. ولكنها تحت حماية مؤسسات الدولة. وعلى رأسها الجيش، الشرطة، النيابة، المحاكم القضائية، جهاز الامن، مؤسسات التربية والمراقبة المجتمعية وغيرها.

*نقاط التفتيش:*
من بداية مدخل مدينة امدرمان، وفيما يخص تداخل الجيش مع حياة المواطنين، تبدأ نقاط تفتيش يوجد في كل نقطة ثلاثة جنود فقط، مما يدل على أن مهمتهم أمنية وليست عسكرية.( احدهم يتبع للجيش، والآخر لجهاز الأمن، والاخير الشرطة). يوقفون كل العربات، و يسألون السائق والركاب اسئلة تتعلق فقط بحفظ الأمن. مثل إبراز الهوية الشخصية، عنوان السكن، منطقة القدوم، … الخ. تتعدد نقاط التفتيش بانتظام. و يتجاوب معهم المواطنون تجاوبا كاملا و برغبة عالية تدل على إيمانهم و قناعتهم الكاملة بضرورة هذا الفحص الأمني الأولي البسيط. كما أن الجنود، كنوع من الاحترام والمهنية، يحصرون مهمتهم في واجبهم الأمني دون أن يتدخلوا في خيارات المواطنين ولا حرياتهم الشخصية.

*حركة العربات:*
تخرج يوميا من مدينة بورتسودان ما لا يقل عن 50 بصا سياحيا سعة 50 راكب من شركات النقل المختلفة. وهي شركات استثمارية خاصة تقدم خدماتها السياحية ذات الجودة الممتازة، للجمهور في النقل بين الولايات والمدن الكبيرة. أما النقل والمواصلات داخل المدن والأحياء السكنية. فهي متوفرة بكثافة كبيرة. تنتظر العربات دورها في طابور كبير، عربة بعد أخرى. ويوجد شباب في المحطات الكبيرة، يحثون المواطنين على ركوب حافلات المواصلات(وهو ما اصطلح عليه محليا بالكُمُسَنجِي). الركشات أيضا تخدم في نقل المواطنين من الشارع العام إلى داخل الأحياء في مسافة قد تصل إلى 5 أو 7 كيلومتر.

*العمل التجاري:*
على جانبي الشارع العام، وعلى مسافة لا تقل عن 30 كلم. تُقام اسواق كبيرة ممتدة. الاف العربات. الشاحنات. محلات بيع اللحوم. السوبرماركتات. المخابز. محلات بيع الذهب. البوتيكات. قدور بيع الفول. المطاعم. صانعي الطعمية. الترزية. محلات بيع الملابس الحاهزة، والاقمشة، والاحذية، و الخضروات والفواكه، و مئات الشاحنات تنقل محصول البصل (يبدو أنه الموسم )… الخ. ازدحام كبير وتنوع في العمل التجاري. كثافة العرض التي لا يضاهيها إلا كثافة الطلب، واضح أنها تضاعفت باكثر من ما كانت عليه قبل الحرب. وذلك بسبب نهب المليشيا للأسواق الأخرى و طردها للمواطنين من الأحياء الأخرى ومن ثم نزوحهم إلى امدرمان. كثافة العمل التجاري دليل واضح، ليس فقط حسب نظرية العرض والطلب، ولكن أيضا دليل واضح على الوضع الامني وعلى الامان و الطمأنينة الشخصية لدرجة تسمح بممارسة العمل التجاري بهذه الكثافة.

*الحياة في الأحياء السكنية:*
رايت الشباب و هم يلعبون كرة القدم في الميادين.
رايت البنائيين وهم يبنون ويطلون الجدرانات بالاسمنت.
صليت بالمساجد وهي ملأى بمئات المصليين.
ذهبت إلى سوق الترزية وإعدادهم بالعشرات واشتريت قماشا و خيطت ملابس هدية لآخرين.
مئات النساء البياعات والباعة المتجولون. الناس تتزاور وتقيم الولائم و جلسات الانس وتشاهد التلفاز … الخ .

*دواوين الدولة:*
زرت السجل المدني لاستخراج شهادة ميلاد….
وزرت المحكمة لاستخراج اشهاد شرعي…..
عدد المواطنين طالبي الخدمة اليومية في مؤسسات الدولة بالالاف.
توجد خارج مباني هذه المؤسسات، أعداد كبيرة من المواطنين ينتظرون الدور، و نساء يقدمن المأكولات الشعبية، وماكينات تصوير المستندات لطالبيها، و كاتبي العرائض انابة عن اصحابها.
الموظفون داخل المكاتب والصالات منهمكون في خدمة الجمهور. اكتمال الهياكل و التسلسل الإداري داخل المؤسسات كما هو.
التدقيق في صحة البيانات و الاوراق والاختام وتتابع الإجراءات كما هو.
*يسير دولاب الدولة بوضعه الطبيعي و يقدم خدماته بدقة وانضباط وتتابع*.

كبار المسؤلون يتحدثون بفخر كبير عن نجاحهم في استرداد كل البيانات الالكترونية التي اعتدت المليشيا بوحشية على أجهزة مراكز التحكم الإلكتروني فيها فدمرتها( اكتملت استعادة سجلات المواليد و الوفيات و الجوازات و البنوك و الوزرات و المحاكم و الجامعات و مراكز الخدمات مثل الكهرباء و المياة والانترنت وخدمات الدفع الآجل والعاجل و غيرها).

*الجيش:*
يوجد الجيش في ثكناته ولا يدخل الى الاحياء السكنية مطلقا. عربات الجيش تتحرك باعداد غير ملفتة للنظر، يبدو أنها بهدف المراقبة و المتابعة وجمع المعلومات بالإضافة إلى مطلوبات العمل الروتيني. يتحدث عامة المواطنين عن الدور الكبير لمركز الشهيد عثمان مكاوي الإعلامي، و عن المؤسسة التعاونية للجيش التي تتفقد المواطنين في أحيائهم السكنية وتقدم لهم كثير من المساعدات الغذائية.

من ناحية أخرى، يعتبر الجيش هو موضوع الحديث الاول للمواطنين. وتوفر المعلومات حوله بسبب كثرة المواطنين المتطوعين داخل الجيش.

لاتجد مواطنين اثنين يتحدثان، إلا كان أحدهما متطوعا بالجيش(كل الحديث عن خطوط التقدم الامامية، وهي محصورة في منطقتين في امدرمان هما: الصالحة، و سوق ليبيا. فضلا عن بحري والخرطوم).

يدور الحديث بكثافة وفخر عن اكتمال تجهيزات الجيش. طلعات الطيران، دقة المسيرات، ضرب الهاون والمدفعية. البطولات، الأبطال، الخطط، التحركات … الخ. حكاوي المواطنين وانفعالهم بالجيش وتفاصيل أداءه، و الإثارة والتشويق، كأنهم يتحدثون عن فيلم سينمائي.

*المهدد الأمني الوحيد:*
لايوجد مهدد أمني يعكر صفو حياة المواطنين، إلا القصف الموجهه عشوائيا ضد المواطنين في الأحياء السكنية. استهدفت المليشيا ملايين المواطنين فقتلت منهم الآلاف. واستهدفت بالقصف العشوائي ايضا، المستشفيات و الأسواق ومحطات المواصلات ونقاط تجمهر المواطنين والمساجد وغيرها. تعايش المواطنون مع هذا الواقع الأليم وكانه القدر الذي لا مفر منه. ويتحدثون عن مضادات الجيش و تدميره مدافع العدو.

*الموقف السياسي:*
البيئة في بورتسودان تسطير عليها أحاديث المواقف السياسية. أما امدرمان، لم أسمع أي تجاذبات أو استقطاب سياسي فيها. ولا حتى الحديث عن تكوين الحكومة أو الأحزاب أو ترشيحات رئيس الوزراء، هذه الأشياء وكأنها لاتهم المواطنين. لا تأتي سيرة قحت أو حمدوك إلا بتهمة العمالة و الربط بينها والمليشيا والإمارات وتُصبُ عليهم الآلاف اللعنات.

*هنالك إجماع كامل على أولوية خروج المليشيا من منازل المواطنين من الأحياء السكنية قبل اي مفاوضات، وعلى حرمة السيادة الوطنية.*

عند المواطنين حساسية مفرطة ضد التدخل الخارجي، و عداء كامل ضد الامارات والعملاء وقحت وتحميلهم المسؤولية أكثر من تحميلها للمليشيا. لم اسمع أحد ينادي بالمفاوضات.

*حوار مع مواطن:*
سألني مواطن الأسئلة التالية: هل احتلال المليشيا لمنازل المواطنين يعتبر انتصارا؟ هل هو هزيمة للجيش؟ هل منازل المواطنين تعتبر أهدافا عسكرية؟ كانت كل اجاباتي ب لا.
فباغتني بالسؤال التالي: اذا لماذا توجه الملامة الى الجيش؟ سؤال:ماهو توصيفك لاحتلال المليشيا لمنازل المواطنين؟
جواب: جريمة محرمة حسب القوانين الدولية والمحلية والدينية.
سؤال:ماهي طرق ومؤسسات مكافحة الجريمة؟ .
جواب:بعد إثبات الجريمة فإنها تكافح بواسطة النيابة، المحاكم القضائية، الشرطة، المواطنين، والوعي بالحقوق والواجباتؤال:لماذا لم تذكر الجيش؟

جواب: الجيش ليس ضمن مؤسسات مكافحة الجريمة ولا يتدخل إلا بأوامر محددة ومكان محدد وزمن محدد(عند إعلان حالة الطوارئ).
كرر سؤاله: اذا لماذا يوجهون الملامة للجيش؟
جوأب:الترويج ضد الجيش هو موقف سياسي مصنوع للتغطية على المليشيا المجرمة وعلى جرائمها و للتشويش على الناس بتوصيف خاطئ وسرديات مضللة.
وانتهى الحوار الذي يدل على الوعي الشعبي العميق.

*معلومات عن أحياء سكنية أخرى للمقارنة:*
تستبيح المليشيا المدن والأحياء السكنية. وتخرج منها المواطنين. وتحتل منازلهم وتمارس ضدهم أبشع أنواع الجرائم. المواطنون الذين ما يزالون في تلك الأحياء. لايستطيعون الخروج من منازلهم. خرج صديقي عبدالله فضربه جندي المليشيا فقطع رجله. ومن بعد ذلك تسمي قحت وتقدم منزل المواطنين وأحيائهم السكنية بأنها مناطق سيطرة الدعم السريع. و تدعو إلى بقائها فيها و إجراء المفاوضات معها أو استسلام الجيش لها. تقدم لا تتحدث عن اجتياح المدن واحتلال المنازل باعتباره جريمة ولكن تضلل الرأي العام وتسميه مناطق السيطرة. وتتهم الجيش بأنه عجز عن حماية المواطنين.

أخيرا هذا المقال فقط لنقل معلومات من واقع الحياة داخل مدينة امدرمان. عايشتها و شاهدتها من واقع تجوالي في احياء وأسواق امدرمان المختلفة وحواراتي مع المواطنين.

بقلم د. محمد عثمان عوض الله