رأي ومقالات

هل للمجرم قبيلة؟

هل للمجرم قبيلة؟
بالمعنى الوصفى الموضوعي، نعم إذا طرحنا هذا السؤال في المجتمعات التي ما تزال تعيش في زمن القبائل مثل السودان، تقريبا كل شخص له قبيلة. ولكن إذا كنا نتساءل بشكل عام خارج سياقنا الحالي فالسؤال قد لا يكون له معنى من الأساس. مثلا ما معنى أن نتساءل ما هي قبيلة هتلر أوجورج بوش أو نتياهو؟

إذن هو سؤال متعلق بواقع معين في لحظة محددة هي لحظة الحرب الحالية؛ هو سؤال عن المجرم في هذه الحرب بالتحديد لا عن أي مجرم على العموم.

والآن ما هو الغرض من السؤال؟ لنقل أن للمجرم قبيلة. ما الذي يجب أن يترتب عمليا على ذلك؟
وليكن الغرض هو تجريم وإدانة القبيلة أو القبائل التي ينتمي إليها المجرمون.

لكن ما معنى ذلك مرة أخرى؛ كيف ستتم ترجمة هذا التجريم وهذه الإدانة عمليا؟ هل ستنزل مثلا في شكل عقاب جماعي لأفراد القبيلة المعينة؟ لأنه عمليا لا توجد قبيلة تمشي على الأرض ليتم تجريمها وإدانتها، لأن القبيلة مفهوم مجرد، ما يوجد على الأرض هم البشر كأفراد متعينين، فلان وفلان وفلان إلى آخره.

صحيح بالمعنى الأخلاقي والأدبي يمكن وصم قبيلة بكاملها بالجرائم التي يقوم بها أفراد من القبيلة وبالعار المرتبط بها. وهذا أمر يحدث بشكل تلقائي، ولكنه يبقى في المستوى المجرد ولا يمكن ضبطه أو التحكم به، ويتلقاه الناس في وعيهم بانطباعات وصور وأشكال مختلفة ويتعاملون معه كذلك بطرق شى. وصحيح أيضا يمكن إدانة الثقافة، مثل ثقافة الغنيمة كثقافة منحطة إنسانيا وأخلاقيا؛ أو إدانة الوعي القبلي كوعي منغلق على ذاته لا يرى الآخر ولا يعترف به، وحدود الإنسانية بالنسبة له هي حدود القبيلة، وكل ما هو خارج هذه الحدود بالتالي يمكن استباحته؛ إذن هو وعي متخلف لابد من نبذه وتغييره. وهنا يختلف تناولنا لهذا الأمر على حسب الأهداف. يمكن أن يكون هدفك هو تجريم القبيلة في إطار صراع هو نفسه ذو طابع قبلي في النهاية؛ وهو أمر مفهوم في حالة الحرب والجرائم التي ترتكب فيها، ولكنه يبقى ضمن أفق القبيلة في النهاية. ويمكن إطلاق نفس الإدانة الأخلاقية للوعي القبلي ولثقافة النهب والسلب ولكن من أفق وطني خارج الصراع القبلي/العنصري، وهنا يكون الغرض من الإدانة هو هزيمة هذا الوعي لصالح الدولة وهذه مصلحة عامة للجميع.

وهناك تجريم وإدانة بمعنى آخر هو المعنى القانوني الذي يترتب عنه محاسبة وعقاب. والمحاسبة والعقاب لا يمكن أن يتعلقا بالكيانات المجردة ولا بالمؤسسات. أنت لا يمكنك أن تسجن أو تعدم قبيلة أو مؤسسة، ولكنك تعدم وتسجن أشخاص محددين. حتى لو نظرنا إلى القبيلة كمؤسسة لها هيكل ونظام قيادي فهي ستكون في هذه الحالة عبارة عن مؤسسة مثل الحزب، أو التنظيم أو الجيش أو الشرطة، مع فارق أساسي هو أنك لا تستطيع أن تحل القبيلة لأنها كيان اجتماعي طبيعي بينما تستطيع حل المؤسسات المصنوعة وإلغاء وجودها، ويمكن للقانون تجريم الانتماء إلى منظمة أو كيان مصنوع، ولكن لا يمكنه تجريم الانتماء إلى قبيلة.

في الجرائم التي ترتكبها مؤسسات الحساب يتعلق بالأفراد؛ من أصدر الأوامر ومن نفذ وهكذا. لا يمكن محاسبة الدعم السريع ولا الجيش ولا محاسبة دولة. ولذلك المحكمة الجنائية الدولية حينما تتهم فهي تتهم أفراد بعينهم. ينطبق ذلك على القبيلة إذا نظرنا إليها كمؤسسة لها قيادة ورأس.

وبالتالي أقصى ما يمكننا قوله هنا هو أن القبيلة لا تمنح حصانة للأفراد. إذا كنت زعيم قبلي، ناظر أو عمدة أو ما شابه، فأنت في النهاية مواطن تخضع للقانون مثل أي مواطن في دولة، ويجب أن تحاسب. وللدولة منطق قوي في حربها ضدك لا من جهة انتماءك القبلي ولكن من جهة تمردك وحربك على الدولة والشعب أيا كانت قبيلتك. هنا تكمن عدالة الحرب من جهة الدولة.

وحتى في الدين المسئولية أمام الله فردية، لن تُحشر القبيلة كقبيلة ولا الحزب كحزب ولا الشعب كشعب، يأتي الناس يوم القيامة كأفراد وكل شخص يتحمل مسئولية نفسه. ولا يعفي الفرد من الحساب أن يكون ضمن الجماعة أو أن يقول أطعنا سادتنا وكبرائنا.

هناك وجه ثالث لطرح السؤال عن قبيلة المجرم هو الوجه السياسي. وهنا الغرض من السؤال مرتبط بالهدف السياسي. ما هو الهدف السياسي هنا؟ قد يكون التعبئة والحشد على أساس قبلي باعتبار أن ذلك محفز أقوى وأكثر غريزية من المخفزات الأخرى القائمة على مفهوم الدولة والوطن كمفهوم مجرد وشامل. وهذا الهدف لا يقود إلى غاية تتجاوز الأفق القبلي نفسه، سيبقى سجينا داخل أفق القبيلة مهما كان عمليا على المستوى المحدود والضيق. فالتعبئة للحرب بالفهوم القبلي قد تنجح ضمن نطاق محدود، ولكنها ستفشل على المستوى الكبير، خصوصا في حرب لها أبعاد خارجية إقليمية ودولية.

ولكن إذا كنت تريد أن تحارب كدولة وتنتصر كدولة فلن تسقط في هذا الفخ. عندما نفكر في أفق دولة ومستوى دولة فلا يمكننا طرح أسئلة حول قبيلة المجرم ولا التصرف على هذا الأساس. لأن مجرد استخدام القبيلة كوحدة للتحليل في على هذا المستوى يهزم فكرة الدولة من أساسها وينحط بها إلى مستوى القبائل والنتيجة الحتمية هي فشل الدولة. فالدولة تتعامل مع مواطنين، مع أفراد تتعامل وفقا لقوانين. صحيح يجب أن نفهم الواقع وأن نتعامل معه بموضوعية؛ فهناك قادة قبائل دعموا التمرد ضد الدولة باسم قبائلهم وهناك تحشيد وتجنيد وحرب وجرائم وكل ذلك تم بواسطة القبيلة كعامل أساسي؛ هذه وقائع لا يمكن نفيها ولا تجاهلها. ولكن السؤال هو كيف يجب أن نتعامل معها على مستوى دولة. ودولة هنا تعني دولة بالمعنى الحقيقي لمفهوم الدولة الحديثة ككيان يجسد أعلى درجات العقلانية والتنظيم في رقعة من الأرض تضم مجتمعات متعددة ومركبة وله غايات تتمثل في الإستمرار ككيان متحد متماسك قوي يلبي حاجات مواطنيه في الأمن والاستقرار والعيش الكريم والتقدم. ودولة هي أصلا في صراع وجودي ضد عدو خارجي.

عندما نفكر في أفق دولة ففي هذه الحالة سيكون الهدف هو انتصار الدولة وترسيخ وجودها وشرعيتها وهيبتها؛ وكل ذلك يتحقق بالقوة وبالعنف ولكن بشكل عقلاني مرشد يستهدف تحقيق غايات الدولة المذكورة آنفا ككيان يسعى في النهاية لتحقيق صالح الجميع.

لا نحتاج إلى الكثير من الكلام لندلل على وجود الدولة وعلى انتصارها وانتصار منطقها وقيمها على منطق المليشيا وعلى قيم المليشيا التي تستخدم القبيلة بشكل فج ومفضوح لا يمكن إخفاءه. فتوظيف القبيلة في الحرب ضد الدولة وضد الشعب هي جريمة قامت بها المليشيا كقادة وكأفراد؛ فهذه جريمة؛ وهي جريمة بحق هذه القبائل إذ جعلت منها مجرد أداة للتخريب في أيدي الأعداء ورمت بها إلى المحرقة مثلما هي جريمة بحق الوطن والشعب. ولكن الدولة في المقابل تمثل نقيض المليشيا وقيمها وممارساتها؛ تعمل الدولة كمؤسسات، جيش، شرطة، أمن، حكومة إلى لآخره ومؤسسات لها قوانين ونظم وتعمل في إطار دولة؛ وتجسد هذه المؤسسات عمليا وحدة الشعب السوداني كشعب وكأمة. فالسودان يقاتل الآن كدولة من بورتسودان إلى الفاشر مرورا بالخرطوم والجزيرة سنار والأبيض وبابنوسة ضد مجموعات هي خليط من قبائل من داخل وخارج السودان ومرتزقة أجانب وخونة ومجرمين من المتعاونين.
أما فيما يتعلق بالجرائم الرهيبة التي تمت خلال وما تزال فأعيد هنا باختصار تكرار ما كتبته سابقا. حيث كتبت ما معناه يجب تكوين وحدة مستقلة بجهاز المخابرات العامة مع توفير كل الموارد والإمكانيات التي تحتاجها لتحقيق هدف واحد محدد هو تعقب ومطاردة كل ارتكب جريمة بحق الشعب السوداني. يجب ملاحقتهم بنفس الطريقة التي تمت بها ملاحقة النازيين بعد الحرب العالمية الثانية والتعامل معهم بنفس الطريقة، إما بإحضارهم إلى المحاكمات أو تصفيتهم حثيما ذهبوا. وهي مهمة قد تستغرق عشرات السنوات ولكنها ضرورية لردع المجرمين مستقبلا وترسيخ هيبة السودان كدولة. وهذا عمل يجب القيام به بمهنية واحترافية، والغرض منه هو الردع وتأكيد كرامة الشعب السوداني كأمر ملموس وليس مجرد الانتقام والثأر.

باختصار، إن كنت تفكر بمنطق الدولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، فلن يكون همك الكلام عن قبيلة المجرم؛ لأن ذلك لن يخدم أهدافك. أما لو كنت تفكر بمنطق القبيلة فمن الطبيعي أن تسأل عن قبيلة المجرم لتنتقم منها، بغض النظر عن معنى ذلك.

حليم عباس