في إحدى ليالي يناير الباردة من العام 2023 تلقت سيدة خرطومية مكالمة من سمسار شهير، قدم لها عرضاً مغرياً لشراء منزلها، كان عبد الرحيم دقلو وراء صفقة شراء ذلك المنزل الذي يطل على أحد المقار العسكرية، لم يترك لها السمسار خياراً، ولكن ما أثار فضولها أن منزلها الذي باعته، ظل خالياً لأكثر من شهر دون أن تقطُنه عائلة، وتحول بعيد ذلك إلى مخزن للأسلحة، هذا ما أخبرها به جارها !!
شعرت السيدة الخرطومية أن دوي حرب قادمة يجتاح مخاوفها، إذ أنها لم تكن وحدها قد تبددت ذكرياتها المكانية، فقد قام الدعم السريع بشراء واستئجار أكثر (480) منزلاً خلال الأيام التي سبقت الرصاصة الأولى، تحديداً بالتركيز على بيوت ومقار ذات قيمة استراتيجية عالية، في كافة أنحاء الخرطوم، تحوطاً للخطة البديلة، وهى (حرب المُدن).
ما وراء حل هيئة العمليات
حين بدأ يتمكن من السلطة، عقب أبريل 2019 ، تم تنوير قائد الدعم السريع بتلك الخطة الجهنمية، فيما سوف تُخدّر أحلامه السُلطوية، ولن ترعبه تلك الكوابيس التي كانت تقض مضجعه، من بينها هيئة العمليات بجهاز المخابرات العامة، فقد ظلّ لشهور عديدة ينتظر قرار حلها، ويطمح في مصادرة مقارها ليرثها، لا كما ورث سليمان دَاوُد، في حين لم يكن ذلك المشهد المحبوك في مطلع 2020 سوى بداية الهبّة الماكرة. وقد تولى المجلس العسكري ساعتها كِبر المؤامرة ظاهريًا، لكنها في الحقيقة رغبة الدوائر الخارجية التي كانت تخطط لانقلاب الدعم السريع، والتخلص – مرة واحدة وإلى الأبد – من هيئة العمليات، لأن تلك القوة التي يُقدّر عدد أفرادها بـ 13 ألف مقاتل، تدربوا على حرب المدن ومكافحة الإرهاب والعمليات الخاصة، فتقرر هكذا بضربة لازب حلهم وتخييرهم بين الدمج في أحد “الجيشين” أو التسريح، وفي نفس الوقت تمّ تقديم مغريات لبعضهم للالتحاق بالدعم السريع ليكون دقلو قد ضرب عصفورين بحجر واحد، تخلص من الهيئة وخنق الجيش، في عقر داره.
لم يكتف دقلو بضم بعض منسوبي هيئة العمليات لقواته، بل عهد لشركة فاغنر بتدريب مجموعة من قواته – المُنتقاة عشائرياً – على حرب المُدن، فتشكلت لديه قوة مدربة على ذلك، وهو ما دفعه صباح الحريق أن يطلق تصريحه الشهير الذي توعد فيه ضباط الجيش السوداني:” حا نوريهم الشئ الما درسوه في الكلية الحربية”، وقد كان يقصد بذلك حرب المدن والقناصة، فقد اقتضت خطة الإنقلاب الاستعداد لأي مقاومة محتملة وزرع القناصة والخلايا النائمة في البنايات والأزقة، ليكون دقلو أيضاً قد أفقد سلاح المدرعات فاعليته، فهو لطالما شعر بأن تلك المجنزرات الثقيلة سوف تدوس على مملكته في دقائق عندما تتحرك، وعليه التحوط والحذر، لكنه لم يكن يعرف ما تخبيئه له الأيام من مفاجآت غير سارة.
اكتفى الجيش في الأيام الأولى للحرب بالدفاع عن مقاره العسكرية (القيادة العامة – مدرعات الشجرة – سلاح المهندسين – سلاح الإشارة – وادي سيدنا وغيرها)، مع بعض الضربات الجوية المُركزّة، وأشهرها ضربة البرج، لكنه لم يتحوط بالقدر الكافي لتعقيدات القتال في شوارع الخرطوم، أو الدفع بالوحدات الخاصة، فيما أدرك قادته على (طاولة الرمل) أن غابات الأسمنت والتضاريس الحضرية لم تكن حيادية أيضاً، وأن قناصة الدعم السريع من فوق المباني الشاهقة هم الخطر الحقيقي الماثل. وقد غلب عليهم المرتزقة من خارج الحدود، ومن المؤكد أن بنادق القنص لديهم سوف تعيق تحركات الجيش، مع حالات الالتفاف والكمائن التي لم يفلت من قبضتها سوى متحرك اللواء أيوب عبد القادر، الذي عبر قرى الجزيرة، وتمكّن عبر مناورة ذكية – في الأنحاء الجنوبية الغربية للخرطوم – من الوصول إلى سلاح المدرعات دون خسائر.
تكساس في الموعد
العقيد إبراهيم حسين، معلم التكتيك في كلية القادة والأركان، الذي أعدّ هو وزملاؤه خطة حصار وتدمير قوات التمرد المُتمركزة في مباني الإذاعة والتلفزيون، ألقوا نظرة بالمقابل على أرخبيل مجازي لشكل المعارك المتوقعة، وسط أم درمان، وكيفية التعامل مع الأهداف الخفية، لتمتد الحاجة لذلك أكثر داخل سلاح المهندسين، الذي كان شبه محاصر وقتها، جزيرة معزولة وسط أمواج نيران العدو، ويحتاج إلى توسيع رقعة التأمين، فلم يكن ثمة خيارٌ أمام العميد قصي من تكوين أول مجموعة هجومية لتنفيذ بعض المهام الخاصة العاجلة خلف خطوط العدو، وقد وجد الدعم المباشر والمتابعة الدقيقة من قائد سلاح المهندسين اللواء ركن ظافر عمر، ومن خلفهم جميعاً الفريق ياسر العطا، وذلك بعد تحديد نوع الحرب التي يخوضونها بالضرورة، وتجميع قوات نخبة من مختلف الوحدات المقاتلة.
ثمة تجارب عالمية مماثلة للوحدات المتخصصة، رينجرز روجرز، كشافة لوفات في الحرب العالمية الأولى، ومجموعة الصحراء طويلة المدى والخدمة الجوية الخاصة في حملة الصحراء الغربية وشمال غرب أوروبا، ووحدات مماثلة مثل القوة 136 في شرق آسيا، ووحدات المشاة الخفيفة الفنلندية الخاصة خلال الحرب العالمية الثانية، ويبدو أن الجيش للسوداني قرر أن يستفيد من تجاربه ومن التجارب العالمية، ويطوّر وحدات مماثلة في كافة مقاره العسكرية، وينفذ بها العديد من الهجمات المباغتة، كما سوف نرى، تمهيداً للضربة الكبرى عند ساعتها المواتية.
أول هجوم وآخر ضحية
من الصعب تحديد أول مهمة قامت بها قوات العمل الخاص في أم درمان، بيد أن سلاح المهندسين “تكساس” كان تقريباً أول من حَرك قوة من العمل الخاص بقيادة الملازم أول نوباوي وهيثم دلدوم عندما قادوا أول هجوم خاطف ومفاجئ ضد قوات التمرد التي كانت تتمركز في “صيدلية محمد سعيد”، وأحدثوا في تلك القوة خسائر فادحة، بل كان الأمر في حقيقته هجوماً ناسفاً، كشف المزيد من الثغرات في صفوف العدو الذي يتحصن بالمباني، يستمد منها قوته الزائفة، ويتحرك عبر صيحات الفزع الميدانية، مراهناً على بطء الجيش مقابل خفة تاتشراتهم.
ولعل أكبر وأهم المعارك في أم درمان، بعد التحام جيش كرري والمهندسين، وتحرير مباني الإذاعة والتلفزيون، تحققت بعمليات خاصة، قادها اللواء ظافر بنفسه، وأشهرها معارك نظافة الفتيحاب، أحياء المنصورة، حمد النيل، كرور وخلاء سوق ليبيا، وهو أمر مثير للغاية أن تتكشف عورات الضعف البائن للمليشيا، حد الرعب الذين يدفعهم للهروب، فقد كانوا يعتقدون أن أشباحاً خفية تقاتلهم، وأن البيوت المسكونة بالشياطين تطاردهم في الظلام، وقد وصل بهم الأمر حد أن العديد منهم أصيبوا بالجنون عندما اكتشفوا في الصباح أن رفاقهم اختفوا فجأة، أو تحولوا إلى جثث مُتفحمة، دون أن يعرفوا من الذي أطلق عليهم الرصاص !!
أهداف عالية القيمة
لم تكن فكرة العمل الخاص جديدة داخل القوات المسلحة، لكن حرب المدن كشفت مدى الحاجة لها، وهى تتكون من وحدات مختلفة من الجيش السوداني، ومن جهاز المخابرات وشرطة الاحتياطي، على درجة عالية من التدريب والتناغم، تعمل تحت قيادة واحدة وفاعلة، وتعرف – بلا شك – كيف تتعاطى مع حرب العصابات والجريمة العابرة، والمُداهمات الليلية، القتال عندهم نزهة، ومطاردة العدو لديهم لعبة، بارعون في الهجوم غير التقليدي على أهداف عالية القيمة.
الشواهد التاريخية على هذا النوع من القتال حاضرة بكثافة، تصادم وتفضح جهل حميدتي بالدروس التي تُعلمها الكلية الحربية لضباطها، فمعالم الخرطوم يمكن لها أن تعيق خطة العدو مثل ما تعيق حركة الجيش، أي لا تساعد أيًا من الجانبين. وهذا ليس صحيحًا في الحرب، وليس صحيحًا في الأدغال، وبالتأكيد ليس صحيحًا في القتال في المناطق الحضرية.
على تخوم القصر
دعك من كل ذلك فما تقوم بها القوات الخاصة في القيادة العامة من جهة، وسلاح المدرعات من جهة آخرى بطولات يصعب رصدها، ولندع التفاصيل جانباً ربما نستدعيها لاحقًا، ولكن قوات العمل الخاص في القيادة العامة نفذوا العديد من المهام الخطيرة، من بينها المشاركة في إجلاء القائد العام، وتوسيع نطاق جغرافيا التأمين، ولعلّ المهمة الأكثر فدائية عندما قاموا بتمشيط شارع النيل إلى ما بعد جامعة الخرطوم، وقضوا تماماً على دعاية “حصار البدرون”، وقامت أيضًا بالتخلص مع عشرات القادة بصفوف المليشيا المتمردة، وربما لا يصدق الناس أنها نفذت عمليات ناجحة على تخوم القصر الجمهوري، وفوق جسر المك نمر، وان استعادة القصر نفسه بالنسبة لها، ليس مستحيلاً، ولكن تدمير العدو في – المرحلة الأولى – أهم من اكتساب الأرض.
أبطال الحلقة الأخيرة
من الصعب حصر العمليات الناجحة التي نفذتها قوات العمل الخاص، الحارق منها والمُميت، ولعل أهمها ضرب مخازن الأسلحة والوقود، أو السيطرة عليها بالكامل، وأشهرها بالطبع عملية السيطرة على معسكر الشهيد حمودة، تلك العملية النوعية المُدهشة، حين تمكنت وحدة كوماندوز برية من السيطرة على معسكر الشهيد حمودة، غرب أم درمان، ووضعت يدها على 5 دبابات ت 72 وعدد 3 مدرعة BTR وعدد 2 مدرعة كشكش وفيض من الأسلحة والذخائر والمعدات والمهمات المتطورة، وكان المعسكر يضم مدربين من قوات فاغنر لتدريب المليشيا التي هربت وتركت خلفها أجهزة اتصال روسية الصُنع.
مِن المهم الإشارة إلى أن تمسك الدعم السريع بعدم تنفيذ اتفاق جدة، والذي قضى بخروجهم من الأعيان المدنية وبيوت المواطنين هو سِر هذه الحرب – ولو شئنا الدقة – هو سبب تطاول أمدها، لأن خطة القتال التي تم تصميمها بالخارج، على يد شركات أمنية ذات طبيعة استخباراتية تقوم على التمسك بالقوات داخل الأحياء السكنية، ونشر القناصة فوق المباني الحكومية وأسطح المنازل، بحسبان أن الجيش لا يمكن أن يدمر البيوت والمؤسسات العامة، وهذا يضمن لهم – على الأقل – البقاء في مأمن لأطول فترة ممكنة، حتى يتم تفعيل بقية السيناريوهات، لكن قوات العمل الخاص أبطال الحلقة الآخيرة بالمرصاد، فكيف تعاملت معهم؟
نواصل
المحقق – عزمي عبد الرازق