رأي ومقالات

ما نكتبه لا يكتمل إلا عندما يقرأه الآخر

قال إبراهيم بن أدهم : ” الكَلَامُ يُظهِرُ حُمقَ الأحمَقِ ،
وعَقلَ العَاقِلِ ” .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” ليسَ كلُّ أحدٍ يُمكنه إِبانةُ المَعانِي القائِمةِ بقلبِه ” .
وفي العنوان أعلاه ، يلتمع جوهر فرضية مقالنا هذا وإشارتنا إلى إتجاه السير ، والتعبير نفسه بكامل صياغته هو إغتذاء من قول الشاعرة الأمريكية ” ريتا دوف ” المرأة التي بدأت حياتها العلمية بدراسة القانون ، ثم الطب النفسي ، وانتقلت بعد ذلك إلى الانثروبولوجيا .
ثم أخيرا رضخت لقدرها المكتوب ووهبت نفسها لشغفها الأوحد ، دراسة الأدب ، بعدما اقنعت والديها ، أنها لن تستطيع أن تحقق لهما رغبتهما إلا لاحقا ، بأن تكون محامية أو طبيبة ، بعد أن تنال شهادة في الأدب الإنجليزي .
وفي مشوارها مع الكتابة الأدبية ، نسيت القانون والطب النفسي إلى الأبد .
عمدت ” ريتا دوف ” على توظيف موهبتها الإبداعية وثقافتها وولعها بالتاريخ ، الجماعي والفردي على السواء ، في شعرها المتعدد الصوت والفكرة والإنفعال ، غير مبالية بكل معوقات الطريق ، قافزة فوق كل جراحاتها الخاصة لتحقيق الهدف .
أن تكون صوت للناس ، رجالا ونساء ، في شعر يفيض حيوية دون اضطراب ، وحسية دون ابتذال .
فالكتابة هي قراءة لشعور الآخر ، حتى يشعر أن هذا الصوت صوته . وأن هذا النص هو صوغ لحياته بالكلمات .
ذهب ” أمبرتو إيكو ” الروائي الإيطالي ، أستاذ علم الرموز والعلامات واصفا طريقته الخاصة في الكتابة قائلا :
القارئ في حاجة إلى ما ينهكه . أعتقد أن رواياتي ، روايات ” صعبة ” إلا أن الناس يقبلون عليها بكثرة ، وهي نخبوية إلا أنها تثير رد فعلا جماهيريا .
فلماذا يا ترى ؟
لقد مل الناس الأشياء السهلة . إنهم في حاجة إلى تجربة متعبة ، معقدة معقدة تنطوي على تحديات كفيلة أن تشعرهم بالرضا عن أنفسهم وقدراتهم .
حتى الإنسان الذي تعود السير في الدروب الواسعة والمنبسطة ، يشعر أحيانا بالرغبة في تسلق الجبال . التسلق متعب طبعا ، لكنه يجذب لأنه متعب .
تلك هي اللذة التي تمنحها إيها الأعمال الجيدة .
وعلى هذا الأساس ظل ” أمبرتو إيكو ” يعمل في إبداعه الروائي على إيجاد فسحة لحرية تفسير القارئ ، حتى يشارك في خلق المكتوب ويساهم في ضخ كلماته وصوره .
ذلك المعنى نفسه قالته ” ريتا دوف ” بتعبيرها الخاص ” فما نكتبه لا يكتمل ، أو لا يتحقق إلا عندما يقرأه شخص آخر .
فالرابط بين الكاتب والقارئ ، بين الكلمة المكتوبة وحياته ، موجود وحقيقي وليس وهما .
لذا نجد مثلا الطيب صالح لم يعد إلى كرمكول – موطنه – منذ هجرها قبل ثمانين عاما لكنها بقيت حياته وحياة أهله ، الأكثر تجليا كقيمة في أدبه ، أكثر من أي أديب آخر .
ومن الومضات الأدبية في عالمنا العربي يقول الكاتب المسرحي المغربي الدكتور عبدالكريم برشيد :
وكتابة بدون ارض صلبة تقف عليهأ ، وبدون رؤية ، وبدون موقف ، وبدون بوصلة ، وبدون طريق تختاره وتمشي فيه ، وبدون افق تتطلع إليه ، وبدون لغة حية وجديدة ومتجددة تبدع بها وفيها ، فإنه لا يمكن أن تكون إلا كتابة تدعي أنها كتابة وما هي فعلا كتابة .
والأصل في الكتابة انها فعل مدني ، وانها اختيار حر ، وانها خدمة عمومية ، وانها أقرب إلى الجنون العاقل منها إلى العقل المقيد والمعتقل .
وهي فوضى نعم ، ولكنها فوضى منظمة ، والولاء الوحيد الذي يؤمن به الكاتب هو الولاء للوطن .
وعن سؤال لمن يكتب الكاتب ، قال عبدالكريم برشيد :
بأنه يكتب لنفسه أولا ، وأنه من خلال نفسه يخاطب كل الناس ، ويكتب لكل البشرية ، وأن أسعد سعداء الكتاب هو من يرضي نفسه في الكتابة ، وهو من ترضى عنه نفسه ، وهو من ترضى عنه كتابته ، وهو من يرضى عنه روح الكتابة ،
وهو من يرضى عنه تاريخ الكتابة .
وتاريخ الكتابة في السودان لن ينسى الشاعر المرهف إدريس محمد جََّماع ، الذي امتاز بشعر متعدد الإتجاهات ، مؤسسا لواقع البيئة الإجتماعية في إطار فني يستأثر فيه الجمالية في كلِّ شيء ، لكن بقلق باهر تتمظهر آثاره في نفس المتلقي .
وبرغم تناغم أشعاره مع حركة حياة الناس ، وتقلبات الأحوال ، إلا أنه كان صوت صراعه مع نفسه عاليا في شعره ، حتى بلغ أن رسم بشاعريته حال الشاعر :
ماله أيقظ الشجون فقاسى وحشة الليل واستثار الخيالا .
ماله في مواكب الليل يمشي ويناجي خميله وظلالا .
حاسر الرأس عند كل جمال مستشف من كل شيء جمالا .
هينٌ تستخفه بسمة الطفل قويٌ يصارع الأجيالا .
ماجنٌ حطم القيود وصوفي قضى العمر نشوة وابتهالا .
خلقت طينة الأسى وغشتها نارُ وجد فأصبحت صلصالا .
ثم صاح القضاء كوني فكانت طينة البؤس شاعرا
مثالا .
الكتابة مشروع إبداعي مستمر ، بحث لتجاوز السائد والمألوف ضدا للاستنساخ . هو أمتياز خاص له حق الإختلاف موضوعيا وجماليا .

الدكتور فضل الله أحمد عبدالله