أثارت التعديلات التي أقرها مجلسا السيادة والوزراء في السودان في 8 مايو الجاري على قانون جهاز المخابرات العامة، جدلاً كبيراً في البلاد وسط رفض بعض الأطراف لهذه التعديلات التي أعادت للجهاز صلاحيات سُحبت منه عقب سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير.
ورأى رافضو التعديلات أنها تمثل “تراجعاً عن سقف الحريات في البلاد، واستهدافاً للحقوق”، فيما قال مسؤولون بالجهاز، إنها تهدف للمحافظة على الأمن القومي، في فترة حساسة للغاية يمر بها السودان، وفي ضوء أوضاع معقدة بالمنطقة تفرض على البلاد التعامل بحساسية أكبر تجاه المهددات.
ونصت التعديلات على ممارسة الجهاز أعمال طلب المعلومات والبيانات والوثائق والاطلاع عليها أو الاحتفاظ بها، واستدعاء الأشخاص واستجوابهم وأخذ أقوالهم “وفقاً للقانون”، فضلاً عن الرقابة والتحري والتفتيش، بموجب أمر صادر من وكيل النيابة المختص وحجز الأموال وفقاً للقوانين، واعتقال الأشخاص وفقاً لما هو وارد بالمادة (50)، التي تتعلق بسلطات مدير المخابرات، وتشمل إلى جانب مواد أخرى، التفتيش بعد الحصول على أمر من وكيل النيابة المختص، وإصدار أمر باعتقال المشتبه به لمدة لا تتجاوز الثلاثين يوماً بغرض التحري والتحقيق.
كما نصّت كذلك على عدم جواز تجريم أي عضو في الجهاز، بسبب أداء عمله بموجب أي سلطة مخولة أو ممنوحة له بمقتضى القانون، أو أي قانون آخر ساري المفعول أو لائحة، أو أوامر صادرة بموجب أي منها، على أن يكون ذلك الفعل “في حدود الأعمال والواجبات المفروضة عليه وفق السلطة المخولة له بموجب القانون، وأن لا يكون ذلك الفعل أو الامتناع تم بسوء قصد أو بإهمال”.
ومنذ عهد الرئيس السوداني السابق جعفر النميري (1969-1985) تنامت أدوار جهاز الأمن، وخاصة في الفضاء السياسي، ليتم حلّه وتوجيه اتهامات لبعض عناصره بـ”التعذيب وجرائم أخرى”، بعد الإطاحة بالنميري، ليعود الجهاز بقوة أكبر في عهد الرئيس السابق عمر البشير (1989-2019)، بعد أدوار محدودة كان يقوم بها في عهد حكومة رئيس الوزراء، الصادق المهدي (1986-1989).
وفي عهد البشير تم تغيير اسمه إلى جهاز الأمن والمخابرات، قبل أن يتم تعديل الاسم في عام 2019 إلى جهاز المخابرات العامة.
وارتبط الجهاز في أذهان بعض السودانيين خلال حقبة البشير، باتهامات وجهت لبعض عناصره بـ”التعذيب والقتل والإخفاء القسري والبطش بالمعارضين”. لكن قوى سياسية حذّرت، بعد سقوط نظام البشير، من مغبة تكرار تجربة حلّ الجهاز، كما جرى بعد سقوط نميري، لخطورة الأمر على الأمن القومي السوداني.
في حين أصرّت أطراف سياسية أخرى على الخطوة، معتبرة أن الجهاز “مؤدلج، ولطالما حمل رؤية الإسلاميين في السودان وتعّج صفوفه بعناصرهم”. غير أن البعض رأى أن الجهاز تحوّل إلى مهام أخرى منذ عام 2019، تتلخص في جمع المعلومات وتحليلها والرصد والتنبيه من أخطار على الأمن القومي السوداني.
وهو الجدل الذي أعادته التعديلات الأخيرة على قانون الجهاز، للواجهة، وسط مخاوف قوى سياسية ومدنية من عودة حقبة ما أسمتها بـ”السلطات المطلقة” للجهاز، فيما يقول الأخير إن الخطوة أملتها متطلبات الأمن القومي وسط الحرب التي تشهدها البلاد منذ 15 أبريل الماضي.
وقال مصدر رفيع في الجهاز لـ”الشرق”، إن “التعديلات الأخيرة على قانون الجهاز فرضتها متطلبات الأمن القومي، في ظل الظروف التي يشهدها السودان، لجهة التصدي للمهددات، وجمع المعلومات وتحليلها ورصد الجريمة المنظمة، ومكافحة أنشطة الإرهاب وأعمال التجسس، وكل ما يمكن أن يمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي في البلاد”.
لكن الطريقة التي أجيزت بها التعديلات الجديدة في قانون جهاز المخابرات العامة، تمثل اضطراباً تشريعياً وقانونياً وفقاً للخبير القانوني عبد السلام سيد أحمد الذي وصف إجازة التعديلات بواسطة مجلسي السيادة والوزراء بـ”الأضحوكة”، وقال إنها “تحيطها الغرابة لغياب السلطة التشريعية تبعاً للوثيقة الدستورية كإجراء انتقالي لحين اكتمال تكوين المجلس التشريعي”.
وأضاف سيد أحمد لـ”الشرق”، أن مثل هذه الطريقة في إجازة القوانين عبر اجتماع المجلسين عُمل بها أثناء الفترة الانتقالية، لكن في ظل “قدر من المشروعية السياسية، والقصد، إجازة التشريعات بواسطة المجلسين آنذاك. وكان تعدد القوى وسط شركاء الحكم يعبر وقتها عن روح الوثيقة الدستورية”.
وتابع: “وهذا الأمر برمته، انتفى بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، إذ لم يعد هناك مجلس وزراء يمثل كتلة سياسية موازنة، كما لم يعد هناك مجلس وزراء بالمعنى المعروف، وغالب الوزراء هم مكلفون، كما أن مجلس السيادة نفسه لم يعد به مدنيون”.
وأشار سيد أحمد، إلى أن “الوثيقة الدستورية نصت في مادتها (37) على حصر مهام جهاز المخابرات في جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها إلى القيادات التنفيذية، ولم تعد لديه سلطات القبض والاعتقال والتحقيق، كما أن الحكومة الانتقالية عدلت في عام 2020 قانوناً لتفعيل الوثيقة الدستورية، وألغيت المواد المتعلقة بالاستدعاء والتحري والاستجواب والرقابة فضلاً عن الاعتقال والاحتجاز وحصانة عناصر الجهاز”.
وأوضح أن “التعديلات الصادرة تستند إلى الوثيقة الدستورية 2019، وهي بذلك تخالف بشكل صريح المادة (37) من هذه الوثيقة بشأن صلاحيات الجهاز، كما تجاهلت تعديلات يوليو 2020 المتعلقة بتفعيل الوثيقة الدستورية، ولم تشر لها أبداً، كما ألغت المواد (25) و(50) و(51) و(52) واستبدلتها بقوانين”.
والمقصود في النهاية، كما رأى الخبير القانوني، عبد السلام سيد أحمد “العودة إلى قانون عام 2010 بإرجاع سلطات الاعتقال والاحتجاز والتحري والاستجواب والمراقبة، إضافة لإعادة الحصانة لأفراد الجهاز، رغم إلغائها بنص دستوري، وتم تقنينها في نص 2020. وهذا يمثل، اضطراباً تشريعياً وقانونياً”.
ولفت سيد أحمد، إلى أن هناك مشكلتين تتعلقان بالمواد التي أعيد العمل بها، الأولى هي تمكين الجهاز من الاعتقال لـ30 يوماً، وتمديد الاعتقال لـ3 أشهر أخرى، ما يعني السماح باعتقال شخص ما لمدة 4 أشهر دون أمر قضائي، وبالتالي يعتبر ذلك “اعتقالاً تعسفياً”، وهذه المسألة تفتح الباب أمام “سوء المعاملة والتعذيب خاصة في ظل تاريخ الجهاز في عهد البشير”.
أما المشكلة الثانية، بحسب سيد أحمد، “فتتعلّق بموضوع الحصانات في المادة (52) في قانون عام 2010، والحصانة تعني بوضوح عدم محاسبة ومساءلة عناصر الجهاز بشأن أفعالهم وتصرفاتهم باعتبارها تمت ضمن مهامهم، بمعنى أن من يتعرض للاعتقال لـ4 أشهر أو لإساءة المعاملة، يفقد الحق في الشكوى وملاحقة العناصر قانونياً، وهناك سوابق في فترة حكم الإنقاذ بشأن هذه الجوانب، وكذلك بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، وفي ذلك مخالفة واضحة للمعاهدات الدولية التي وقع السودان عليها”.
ورأى السفير السابق والكاتب الصحافي، العبيد المروح، في مقال صحافي، أن الحرب الحالية في السودان أظهرت “الثغرة”، التي خلّفها تغييب جهاز المخابرات العامة، مشيراً إلى أن الأمر كان “مقصوداً بتآمر خارجي أو نتيجة الاستجابة لضغوط أطراف سياسية”، أو تجاهل التوصيات التي كانت توضع على طاولات المسؤولين من خلال تقارير المخابرات.
ولفت المروح إلى أن عناصر الجهاز أسندوا القوات المسلحة في القتال، وقدموا الكثير في المعارك “حتى قبل أن تنصفهم قيادة الدولة، وتغطى ظهرهم المكشوف بعدم وجود الحماية القانونية”، معتبراً أن بعض منسوبي المخابرات جرى “التشهير بهم وإساءة سمعتهم سابقاً”.
وقال إن المهمة الأكثر تعقيداً، التي تنتظر المخابرات السودانية بعد إجازة التعديلات، هي “توسيع نطاق العمليات القائمة في مجال مكافحة المليشيات وأعوانها”، بالتنسيق مع استخبارات الجيش السوداني والشرطة.
وخلص إلى ضرورة عمل “منظومة الأمن القومي” كلها بتناسق وثيق، حتى يعبر السودان مرحلة وصفها بأنها “الأكثر دقة”.
عودة “منهج التسلط”
بدوره، قال المتحدث باسم تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم”، بكري الجاك، لـ”الشرق” إن إعادة صلاحيات جهاز المخابرات وحماية عناصره هي عودة إلى “منهج التسلط والشمولية”، وما هي سوى “مقدمات لطبيعة الدولة التي يريد الإسلاميون بناءها في السودان، عن طريق تصوير الحرب وكأنها تنحصر بين الجيش والدعم السريع، باعتبارها مواجهة بين القوات المسلحة، وقوة تمردت عليها”.
واعتبر أن “نتيجة هذا النمط من التفكير ظهرت في الحكم بالإعدام على مواطن بمدينة القضارف، شرق البلاد، بعد اتهامه بالتخابر مع الدعم السريع”، مشيراً إلى “غياب العدالة بالضرورة في ظل الحرب، وفي ظل ظروف الشحن النفسي والتوتر”.
واعتبر الجاك، أن تعديل قانون جهاز المخابرات هو “تقنين لحالة السيولة الأمنية والمخاطر المحدقة بالمدنيين نتيجة التصنيف ومجرد الشك فيهم”، وأعرب عن رفضه على نحو قاطع هذه التعديلات، مضيفاً أن المنظمات والأطراف الدولية “ينبغي أن ترفضها”.
هيبة الدولة
وعلى عكس الجاك يرى مؤيدون للتعديلات، أن ظروف السودان الحالية تُحتّم عملاً أمنياً متكاملاً في ظل الحرب الحالية والسيولة الأمنية التي ربما تسمح بتدفق “جماعات إرهابية” إلى البلاد المحاطة بأحزمة من الأنشطة والجماعات المتشددة.
وأشاروا إلى أن هذه الجماعات دائماً ما تكون عينها على الخواصر الرخوة (مصطلح عسكري يشير إلى مناطق الضعف) لتضع أقدامها، ويمثل السودان الذي يشهد حرباً ضارية بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ 15 أبريل الماضي، بيئة جاذبة لها وللجماعات التي تنشط في الجريمة المنظمة وأعمال التجسس إلى جانب أعمال قد تلحق أضراراً كبيرة بالاقتصاد السوداني، أو قد تمس الأمن القومي والدولة ذاتها.
وفي هذا الإطار، قال رئيس حركة تحرير السودان، مصطفى تمبور، إن الصلاحيات المعدّلة لجهاز المخابرات تعتبر “بداية جادة لفرض هيبة الدولة، وحسم كل مظاهر التفلت (الانفلات) وتضييق الخناق على العملاء وأعداء الوطن”.
“ديكتاتورية كاملة الدسم”
ورفض حزب المؤتمر الشعبي المعارض، في بيان “إعادة العمل بقانون جهاز الأمن والمخابرات الوطني بكل ما يحمل من تعدٍ على الحريات وتعطيل الحقوق والحرمات المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات العامة”.
وأضاف في بيانه، أن “نظام البشير الشمولي القابض، اتكأ على قوانين مقيدة للحريات، وصادر الحقوق الأساسية عبر قوانين شرّعها، في مقدمتها قانون جهاز الأمن والمخابرات”.
واعتبر أن “الاعتداءات والانتهاكات بلغت ذروتها وبشاعتها باغتيال أحمد الخير”، وهو معلّم “مات متأثراً بالتعذيب” على يد عناصر من الجهاز أدانتهم محاكم سودانية لاحقاً بالإعدام.
وحذّر الحزب من أن إعادة سلطات جهاز الأمن “تفتح باباً واسعاً للفتك بالحريات، وتعيد البلاد إلى مربع الحكم السابق”، مشيراً إلى أن ما يجري الآن هو “ديكتاتورية عسكرية كاملة الدسم”.
وليس بعيداً عن هذا الموقف، قال التجمع الاتحادي، وهو أحد مكونات تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدّم)، إن التعديلات على قانون جهاز المخابرات العامة “تمثل ارتداداً ونزعاً للحقوق والحريات”.
وأضاف في بيان أن “الشعب السوداني قال كلمته إبان الثورة ضد الأساليب القمعية والوحشية والتاريخ المظلم لجهاز المخابرات المليء بانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم التي لا تغتفر”.
وحذّر التجمع الاتحادي، من “تفاقم الانتهاكات، وتكريس المزيد من الجرائم بمبررات قانونية”، وفق البيان.
من جانبه، قال رئيس التحالف الديمقراطي للعدالة الاجتماعية، مبارك أردول، إن تحالفه شكل لجنة قانونية – سياسية لدراسة القانون المجاز، والنظر في أي تأثيرات محتملة على الحريات وحقوق الإنسان، وخاصة ما يتعلق بالأنشطة السياسية والحزبية، وما إذا كان القانون “احتوى على سلطات للأمن السياسي، الذي كان تاريخه سيئاً في فترة النظام السابق، وكذلك الاستبداد الذي تم في عهد لجنة إزالة التمكين”.
هيئة العمليات
ولم تُشر التعديلات التي نُشرت في الجريدة الرسمية، إلى “هيئة العمليات”، التي تم حلّها بعد الثورة على نظام البشير، وكانت تتبع الجهاز، وتضم 13 ألف مقاتل، شارك بعضهم سابقاً في القتال ضد الحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
ونصت الوثيقة الدستورية الموقعة بين المكونين العسكري والمدني في عام 2019 على هيكلة الجهاز وحصر مهامه في جمع المعلومات، وبدأت السلطات آنذاك في حل “هيئة العمليات” ما أدى إلى وقوع مواجهة مسلحة في محيط مقر الهيئة، شرقي العاصمة السودانية، وآل المقر لاحقاً إلى قوات الدعم السريع، التي اتخذته مقراً للاعتقال، حسب معتقلين سابقين، تحدثت إليهم “الشرق”.
وتشكلت هذه القوة في عام 2005 في عهد المدير السابق للجهاز، الفريق أول صلاح عبد الله “قوش”، وتشير تقارير صحافية إلى أنها كانت تملك أسلحة متوسطة وثقيلة، ونال أفرادها تدريبات عالية. أما أكبر مهامها، فتمثلت في التصدي لهجوم قوات حركة العدل والمساواة بقيادة الراحل خليل إبراهيم على الخرطوم في عام 2008، لكن الاتهامات لاحقتها، بعد ذلك “بقمع” الاحتجاجات الشعبية خلال أعوام 2013 و2018 و2019.
خالد عويس – الشرق للأخبار