(نقلت أخبار أمس رحيل الزميل المعلم أحمد عثمان حمري. وكنت قبل سماع وفاته أراجع كلمة نقلت فيها عن سيرته معلومة ما. وهي سيرة نشرها في جريدة “الأيام” في عام 1987. وهي متعة محض أخذتني عني فكتبت كلمة عنها نشرتها في بابي “ومع ذلك” في جريدة الخرطوم في نفس العام. وعرضت فيها للجزء الخاص بطفولته في محطة نمرة 5 للسكة الحديد فيما بين أبو حمد وحلفا التي كان والده ناظراً على محطتها الموحشة. رحم الله الزميل حمري من جيل المعلمين الاشتراكيين الذين أخلصوا للمهنة والوطن.
قضيت شطراً من أيام الظل، وهي عبارة للشاعر المرحوم الجيلي عبد الرحمن في عهد الطفولة، بمدينة أبو حمد التي كان والدي ناظراً لمحطة السكة الحديد فيها بين 1949-1952. وأبو حمد هي المحطة التي يبدأ منها العد التنازلي للمحطات النمر: من نمرة عشرة إلى نمرة واحد قبل محطة حلفا. وبين بعض المحطات النمرية سندات نمرية أخرى بينهما مثل 54.
الأصل في محطة السكة الحديد خدمة المنطقة من حولها ركاباً وعفشاً وخدمة الخط الحديدي نفسه لصيانته، وإدارة حركة القطارات. ولوقوع المحطات النمر في وحشة العتمور الصحراوي، لا ناس ولا بضاعة، فقد انحصرت مهمتها في شقاء وحيد تليد هو خدمة الخط الحديدي نفسه وقطاراته. وهي شبيهة بأمر السياسة عندنا منذ حين: فالسياسة تخدم خط السياسيين الحديدي.
والمحطات النمر في أمرها قريبة مما قاله ماركس في النقود بين السلع. فالنقود سلعة، ولكنها سلعة تجردت من كل نفع مباشر حسي (أنت لا تأكلها مثلاً). وأصبحت خادمة متجردة لخدمة السلع الأخرى في دورانها بين الباعة والمشترين. ومفهوم ماركس عن النقود، الذي وصفها فيه بأنها FETISH وترجمناه في العربية إلى “شيئية”، يحظى بقبول جدي على عهدنا هذا في دوائر أهل العلم. فالـ Fetish. آلة من آلات الساحر. وقد يكون عوداً أو ريشة طائر أو غيره، ولكنه في عملية السحر يكتسب حضوراً شفيفاً صميماً مستقلاً عن أصله ومعناه وغرضه.
والمحطات النمر “شيئيات”. وعن وحشتها كان يؤانسني أخي المرحوم عبد الله أفندي محي الدين الحسن، من حجراب بار جلاس بالشمالية. فقد كان يعمل برئاسة هندسة السكة الحديد بعطبرة، ورمزها “بلنجه” في شفرة تلغرافات السكة الحديد، التي يقع أكثر عمل النمر تحت إدارتها. فقد روى يوماً طُرفة من طرفه الكثيرة عن النمر حين ذكر أن إدارة الهندسة بعثت إلى عمال الدريسة على طول الخطوط تحذرهم من الاشتراك في إضراب نقابي وصفته الإدارة بأنه غير مشروع على أيام نظام الفريق عبود. وطلبت الإدارة من حكمدارات الدريسة الإفادة بالعلم. وفعلوا ما عدا حكمدار نمرة ثلاثة الذي كان رده “إلى بلنجه، عطبرة: أنا وعمالي مضربون” وهذه حملة حكمدار نمرة ثلاثة الانتقامية. وحكى لي المرحوم عبد الله عن حكمدار الدريسة الذي طلب النقل من إحدى النمر لأن بناته قد بلغن سن الزواج ويخشى عليهن من العنوسة في النمر التي هي بلا سكان أصلاً. وآمل أن تحتفظ “بلنجه” عطبرة بأرشيف النمر هذا لباحث مستقبلي يشق باب هذه الوحشة الضريرة يوماً.
ومن أبرع رواة حياة النمر الشاعر الرباطابي الهجاء الظريف، إبراهيم الدقاق، من ذرية ود الكليباوي الشاعر الرباطابي المطبوع. وإبراهيم الدقاق عامل دريسة قضى شطراً من حياته في نمر النمر من مثل 45 التي تقع بين نمرة خمسة وأربعة. وحكى لي يوماً بمدينة أبو حمد عن سعادته الشاعرية يوم حطت “رخمة” بتلك المحطة المجهولة فانشرحت نفسه حتى لبغاث الطير.
ومع ذلك فإن الأستاذ المعلم أحمد عثمان حمري، الذي قضى طرفاً من طفولته بنمرة خمسة مع والده ناظر المحطة خلال آخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينات، فهو مؤرخ النمر بلا منازع. أعدت قراءة ما كتبه حمري عن النمر وانغرست وحشتها في خاطري. وكان حمري قد نشر طرفاً من ذكريات طفولته وشبابه في النمر وغير النمر بجريدة “الأيام” خلال عام 1987. وهي يوميات تستحق أن تنشر على الملأ لعذوبتها، ولولائها لجيل سوداني من الآباء اقتحم الشدة والحداثة من غير تدريب غير الصبر وغريزة الأبوة. فقد جاء زمن في الحداثة قريب رأينا مفهوم الشدة يتعاوره أهل العلم والخبرة والدرجة الرفيعة حتى شمل كل السودان ما عدا عاصمة الخير والزبائن.
وأنقل أدناه مقتطفات مما كتبه الأستاذ حمري عن نمرة خمسـة بتاريخ 12 و24 أبريل 1987:
كانت محطة نمرة خمسة محطة ليست لها هوية وليس فيها مقابر. مجرد رقم كأرقام المساجين. ما كان حول محطة نمرة خمسة مما تنبت الأرض شيء غير جذع شجرة قريب منها خط الأفق وشرابها السراب اللماع. كانت جذعاً بلا فروع ولا ورق. فكأنها عمود النوريق (المحراث). ولكم حججنا إلى تلك الشجرة. كنا نسميها شجرة لأنها لم تكن جذعاً ميتاً. كانت صامدة وبماذا نسميها وليس غيرها شجرة. على الجذع حروف محفورة بأسماء الحجاج. وكأن الحروف آثار جراح لمحارب قديم. واحتراماً للشجرة لم يحاول أحد قطع الجذع رغم الحاجة إلى الوقود.
ولا أذكر أنواع اللعب التي كنت ألعبها مع أخواتي أو مع نفسي. ولكن قطعاً لم نكن نلعب بالطين. كان اللعب بالطين شيئاً عزيزاً. كان حُلماً. لم يكن هناك طين. كانت الرمال تمتد إلى حد البصر.
قريتنا (نمرة خمسة) كانت تتكون من ثلاثة أحياء: حي المحطة، وحي الحكمدار، وحي الدرَّاسة. وكانت الدرَّاسة من الرباطاب والمناصير. وفي هذا الحي كنا أنا وأخواني الصغار نقضي أكثر أمسياتنا. وكان عندي شرك من حديد أصطاد به الفئران في ذلك الحي لأنه لم يكن في المحطة طيور.
كان للمحطة سماء. وفي مرة ساقت إلينا السماء طائرًا جاء مهاجرًا. كان طائرًا صغيرًا. ولكنه كان قوياً. جاء مهاجرًا من مكان بعيد، أبعد من البحر الأبيض المتوسط.
يا له من طائر. كان في لون ريشه بياض وزرقة. وله منقار كمنقار الصقر. هل أودت بالسرب عاصفة وبقي هذا الطائر وحده؟
. كان في لون ريشه بياض وزرقة. وله منقار كمنقار الصقر. هل أودت بالسرب عاصفة وبقي هذا الطائر وحده؟ أم ترى فاته السرب؟ لست أدري. ولكنه جاء مثل السيف وحده. جاء يستريح في محطتنا. ولعله كان يطمع في زاد يتزود به لرحلة طويلة. ومثل ضيف هدندوي حط رحله بعيداً تحت ظل السيمافور (الذي عليه مدار حركة القطارات). وكان ظل السيمافور قصيرًا. وفي الظل القصير نصبت للطائر الشرك. (ووقع الطائر المهاجر في الشرك).
وكان قطار الاكسبريس (إلى حلفا) نافذتنا إلى العالم. كان هو الراديو والسينما والجريدة والمدرسة. وأهم من ذلك كنا نرى الأطفال. نرى وجوههم الصغيرة تطل من نوافذ القطار. وفي العربات الخلفية كان الأطفال مثلنا. ولكن أطفال العربات الأمامية كانوا كالدمى. كنا نحس بأنهم ليسوا مثلنا. ويمضي القطار ونتبعه بعيوننا حتى يختفي. ويبقى مكتب المحطة، وبيتنا، وبيت الحكمدار، وبيت الدرَّاسة، والأفق البعيد. انتهى.
قال الشيخ فرح ود تكتوك: “حمامة قبل الملامة” في تحبيب الزواج والحث عليه. ورغم ما في العبارة مما لا يعجب عتاة النسويات والنسويين، إلا أنني أبني عليها في تحبيب نشر كتاب حمري (إذا لم يكن قد نشر بعد) والحث على ذلك: “كتاب قبل العذاب وحكاية قبل النهاية ”
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون
عبد الله علي إبراهيم