تستعد الولايات الأمريكية لحمل معداتها وعتادها العسكري والرحيل من النيجر، وتناقش مع السلطات النيجرية ترتيبات سحب قواتها من البلاد بعد قرابة 12 عاماً، في وقت تحاول فيه نيامي الإعتماد على نفسها في مكافحة الإرهاب بالتحالف مع بوركينافاسو ومالي، وعزم المجلس العسكري بالبلاد بأخذ روسيا بديلاً مساعداً عن القوات الفرنسية والأمريكية في مكافحة الإرهاب بالمنطقة.
إعلان الانسحاب
وأعلن البنتاغون أمس “الإثنين” أن الولايات المتحدة بدأت بإجراء مناقشات مع النيجر بشأن سحب أكثر من ألف جندي أميركي من البلاد التي تعد قاعدة رئيسية لعمليات مكافحة الإرهاب الإقليمية، وذلك بعد أن ألغى المجلس العسكري بالبلاد في مارس الماضي، اتفاق التعاون العسكري مع واشنطن التي وافقت على سحب قواتها الأسبوع الماضي، ووعدت بإرسال وفد إلى نيامي في غضون أيام، وأكدت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو إس آيد) في نيامي أنها ستواصل تعاونها الثنائي مع النيجر، معلنة اتفاقاً جديداً سيحل محل اتفاق سابق تنتهي مفاعيله في سبتمبر 2024، وأنها ستواصل استطلاع الخيارات بشأن كيفية ضمان قدرتها على الاستمرار في مواجهة التهديدات الإرهابية المحتملة في أعقاب الانسحاب.
تنافس وتحديات
الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تخطط لأخذ موقع فرنسا التي انسحبت قواتها من قبل من النيجر، باتت مهددة بفقد نفوذها في المنطقة، لصالح روسيا، ولم يتراجع المجلس العسكري في النيجر من تحذير واشنطن بعدم تدخلها في الشؤون الداخلية للبلاد، بعد تحذير أمريكا لـ “نيامي” بعدم إقامة علاقات أوثق مع موسكو، وبالتزامن مع انعقاد مؤتمر أبوجا لمكافحة الإرهاب بالمنطقة، والذي يتوقع أن تخرج توصياته بضرورة تكوين قوة أفريقية مشتركة لمكافحة الإرهاب، فهل ستنجح منطقة الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا في مواجهة هذا التحدي الكبير، وإلى أي مدى ستصمد إزاء التنافس الفرنسي والأمريكي من جهة والروسي من جهة أخرى، ربما ستشهد المنطقة المزيد من المشاكل والتحديات في مقبل الأيام.
وفي الوقت الذي تُطرد فيه كل من أمريكا وفرنسا من معاقل نفوذهما القديم في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقي، تحاول الدولتان بكل الطرق بسط نفوذهما على مناطق أخرى وعلى السودان على وجه الخصوص، بتدخل أمريكي فرنسي يحسبه الخبراء لصالح مليشيا الدعم السريع المتمردة، فهل ستستطيع الحكومة السودانية تحجيم هذا التدخل في الشؤون الداخلية بالبلاد كما استطاعت دول الساحل، أم أن واشنطن وباريس لديهما أوراق ضغط مختلفة ستجبر السلطات السودانية على جعله معقلاً بديلاً للنفوذ الأمريكي والغربي بالمنطقة.
في هذا التقرير نناقش انسحاب القوات الأمريكية من النيجر وتأثير ذلك على نفوذها في المنطقة.
وضع حرج
الكاتب الصحفي والمحلل السياسي السوداني “محمد محمد خير” يرى أن إهتمام أمريكا وفرنسا بمنطقة الساحل الأفريقي قديم واستراتيجي. وقال خير لـ ” المحقق” إن تساهل أمريكا مع الدعم السريع منذ وقت مبكر يدخل في هذا الإطار، مضيفاً أن أمريكا كانت تتخذ تدابير لمحاربة الإرهاب في أفريقيا، وأنها كانت تدخر الدعم السريع لهذه المهمة، لافتاً إلى أن الدعم السريع والجرائم التي ارتكبها في الحرب في السودان أدخل الإدارة الأمريكية في وضع حرج.
وتابع: الدعم السريع ارتكب جرائم بشعة ضد القبائل الأفريقية في دارفور وهي حليفة لأمريكا والغرب، مؤكداً أن مشكلة أمريكا في مساندة الدعم السريع أصبحت قانونية وتحولت لقضية رأي عام، منوها أن الظروف التي تعيشها الحكومة السودانية لا تتيح لها الفرصة للتعامل مع أمريكا مثلما تتعامل أنظمة الساحل الأفريقي، و أضاف: أما فرنسا فقد فشلت فشلاً ذريعاً في المؤتمر الإنساني الذي أقامته بخصوص السودان مؤخراً، وقال “لا يمكن لأمريكا ولا فرنسا أن تضغط في ظل هذه الظروف لتغليب كفة الدعم السريع على الجيش السوداني، ولا أظن أن يكون هناك إتفاق أمريكي فرنسي لهذا الغرض”.
انسحاب متوقع
أما مدير جامعة المغيلي الأهلية الدولية بالنيجر الدكتور “عبد المهيمن محمد الأمين” فقد أوضح من جهته أن انسحاب القوات الأمريكية من النيجر كان متوقعاً من خلال الأحداث التي تجري في كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو. وقال الأمين لـ ” المحقق” إن هذا التحالف الثلاثي للدول الثلاث يسير في اتجاه الإبتعاد عن أوروبا وأمريكا، وإنها بدأت تسير بشكل واضح نحو بناء علاقات متميزة مع روسيا خاصة في الجانب العسكري والأمني، مضيفاً أن الشعب النيجري ينظر إلى القوات الأمريكية بنفس النظرة التي كانت ينظر بها للقوات الفرنسية عندما كانت متواجدة في البلاد، فمع كل الامكانيات التي كانت موجودة لهذه القوات إلا أن الجماعات الإرهابية تنشط بقوة في مثلث الموت بين الدول الثلاث، وكذلك حركات تهريب البشر والمخدرات على الحدود بينهم، وأيضاً مع حدودنا مع ليبيا والجزائر، مبيناً أنه لم يظهر للناس بشكل قوي تأثير هذه القوات في الميدان.
وقال إن تأثير خروج هذه القوات له اتجاهان وهو أن النيجر ستصبح أمام الأمر الواقع الآن، وعليها أن تعتمد اعتماداً كلياً على مالديها من امكانيات وهي متواضعة عسكرياً وأمنياً، وأن تحاول أن تتحرك على ضوء هذه الامكانيات، مضيفاً أن النيجر تقوم بمرحلة بناء الذات من جديد وفق القدرات التي تتوفر لديها من أجل أن يكون لديها إدارة للشأن الأمني في بلادها سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، متوقعاً أن الدول الثلاث ستحاول أن تدعم هذا التحالف بأن يكون فاعلاً وحقيقياً، وأن يحاول تسخير كل الامكانات مع الدول الصديقة التي ستتعاون معها، ولم يستبعد اعتماد الدول الثلاث على روسيا كبديل عن الولايات المتحدة وفرنسا في القضايا الأمنية.
ردود فعل
وبحسب مدير جامعة المغيلي الأهلية الدولية بالنيجر فإن التأثير السلبي لهذا الانسحاب هو لعبة المخابرات بين الدول الكبرى، وأن أمريكا وفرنسا والتي خسرت مصالحها بالنيجر ربما ستقوم بردود فعل تقلق الأمن في المنطقة، وأيضاً كان يجب أن يكون هناك نوع من التخطيط بعيد المدى في قضية التخلص من القوات الأجنبية، فمازلنا بحاجة لأن يكون لنا حلفاء نعتمد عليهم في المجال اللوجستي، وتابع أن الجهات التي لها مصلحة في النيجر، ستجد أن هذه فرصة سانحة وقوية من أجل تعزيز نشاطها في البلاد، وأن تثبت وجودها وأن تقوم بعمليات أكثر سواء مايتعلق بالحركات الإرهابية أو بحركات التهريب، متوقعاً أن تكثف هذه الحركات من نشاطها نتيجة لهذا الانسحاب، مستدركاً بأنه إذا تحركت النيجر بسرعة ونظمت نفسها واعتمدت على امكاناتها الذاتية بالتعاون مع دول الجوار بجانب التحالف الثلاثي، ونسقت فيما بينها أمنياً ربما سيستطيعون التقليل من الآثار السلبية.
كانت تأمل
بدوره أشار الدكتور حمدي عبد الرحمن الخبير المصري في الشؤون الأفريقية إلى إلغاء حكومة النيجر الاتفاق المعمول به بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية والذي بمقتضاه احتفظت أمريكا بقوات في النيجر في عام 2012. وقال عبد الرحمن في حديثه لـ “للمحقق” إن النيجر كانت محطة مهمة جداً لمحاربة الإرهاب في الساحل وشرق وغرب أفريقيا، وإن الولايات المتحدة كانت تأمل أن تستمر بعد طرد القوات الفرنسية في كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو، مضيفاً: لكن الحكومة العسكرية التي أطاحت بالرئيس ” محمد بازوم” في نهاية العام الماضي اعتبرت هذا الإتفاق مجحفاً، وأن وجود القوات الأمريكية غير قانوني، ومن ثم انسحاب القوات الأمريكية من النيجر، موضحاً أن القوات الأمريكية موجودة في القاعدة 201 قرب “أغاديز” والتي يوجد بها حوالي 1100 من الجنود الأمريكين، والذين يمثلون قوة ضاربة للنشاط الأمريكي في هذه المنطقة من عمليات تدريب أو طائرات مسيرة لاستهداف بعض قواعد الجماعات الجهادية والعنيفة في المنطقة.
وأضاف عبد الرحمن إن خروج فرنسا والولايات المتحدة يعني أن الدول الغربية سوف تفقد نقطة انطلاق أساسية في هذه المنطقة، ولاسيما أن تشاد هي الأخرى هددت بطرد الأمريكان من هذه المنطقة.
روسيا بديلاً
ولفت الخبير المصري في الشأن الأفريقي إلى استخدام روسيا لهذه الفجوات، وإلى أنها تحل محل فرنسا والولايات المتحدة، وقال إن روسيا غيرت من اسم فاغنر ليصبح الفيلق الأفريقي تحت إشراف وزارة الدفاع الروسية، وأنه تم توقيع اتفاق بينها وبين نيامي لتوريد أنظمة أسلحة، وكذلك مدربين روس للجيش في النيجر، مؤكداً أن هذا تدعيم موطئ قدم لروسيا في المنطقة، وأن هذا سيمهد لتنافس دولي قوي بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وفرنسا من جهة أخرى، وقال على الولايات المتحدة أن تعيد مرة أخرى تقييم سياستها الخاصة بمحاربة الإرهاب والوجود الأمني في الساحل وغرب أفريقيا، موضحاً أن تأثير الانسجاب سوف يؤدي إلى وضع قلق في منطقة تمثل مركب أمني بالغ التعقيد والتشابك، وأن الجماعات الجهادية تستغل هذا الوضع التابعة للقاعدة وداعش.
وأشار إلى أنه بصفة خاصة سنرى ولاية الساحل وولاية غرب أفريقيا التابعة لداعش وكذلك جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة للقاعدة، مضيفاً أن هذه الجماعات وتوابعها ستستفيد، وأنها أعلنت عن توجهات جديدة للتمدد والانتشار وحتى الوصول إلى المناطق الساحلية مثل بنين وتوغو وغانا، وأحيانا يحدث تعاون بين هذه الجماعات على الرغم من اختلافاتها الفكرية والايدلوجية، وتابع إن عقم هذه المقاربات الدولية للتعاون الأمني مع المنطقة، وإعلاء مسألة التنافس الدولي قد يكون ورقة رابحة لتمدد الجماعات الإرهابية والتأثير على الأمن الإقليمي والدولي في منطقة الساحل وغرب أفريقيا.
القاهرة – المحقق: صباح موسى