كما للمدن أنفاسها الخاصة والمميزة لها ، ولها أذواقها ووقعها على نفوس البشر ، وكما للأزاهير أريجها المختلف ، وكما لأفواه الأطفال عطرها الجميل ولرائحة المطر والدعاش نفحاته التي تغوص في داخل الأنفس ، فإن للأسواق وللحوانيت فيها طعمها الخاص ونفحاتها في الصباح الباكر عندما تُفرد( ضِلف أبوابها) لمسارب الضي الأولى الآتية من المجهول، حاملة معها نفحات الصباح.
طيور الحمام الوديعة تعشق السرحة وتلقيط سواقط الرزق من الباعة في أزرقة السوق، قبل أن يأتي الباعة لحوانيتهم، وترسم دروبها على التراب ، كما ترتسم خدود شاباتنا السمراوات، بشلوخ درب الطير ، المخضوض بالكحل الأزرق، أيام كانت شلوخ درب الطير تزين أغاني البنات، وكانت تجتذب الغاوين في ملامح النساء، تلك ثقافتنا في أيامنا الخوالي ، أيام الحب البريء والعفة تحد من شأفة التطلع.
وتلك أيامنا عندما كنا صغارا كانت نفحات الأشياء تختلف تماما ، وكانت حواس شمنا من القوة بحيث أننا نشتم رائحة الرغيف الذي تحمله نفحات السحر ، من بعيد، حتى وإن كان الرغيف موضوعا في صناديق الشاي الكبيرة المغطاة بالبلاستك ، عندما يأتي بها بائع الرغيف من الأفران في القرى المجاورة ونفرق بينها وبين رائحة البنزين المنبعثة من ( طرمبيل) ناظر المشروع، وبين زخات أنفاس زهور القطن وانداء المزارع.
في المغيب كانت رائحة (دُك البهائم) وهي آتية للقرية تبعث فينا الإلفة الحميمة بالنعمة والأنعام ، غير أن ابخرة(صيجان العصيدة)، كانت تلف المكان من كل فَجّ في القرية وتغمر المكان.
عندما يأتي أحمد عند الصباح في تشوق شديد ، ليفرد أشرعة حانوته فتنبعث إليه الرائحة الطيبة التي أدمنها، من خليط زيوت السمسم وعِلَك التناجر، مخلوطة برائحة الطحنية، والشاي والهبهان والقرنفل ، وتنفح من جنبات الحانوت خليط من عطر الصاروخ والصندل وبنت السودان ومكعبات المسك الأصفر ، وتتداخل أنفاس الحوانيت ببعضها ، لتروج في المكان باعثة الشعور بالنعم والمونة من ملذات الحياة.
المتسوقون في الأسواق الشعبية في حراكهم الماتع، تتمايز أذواقهم وحواس شمهم، فمنهم من يتفاعل مع رائحة صبغ ( المراكيب)، وقِطران الجلود وأسواط العنج ، (ولا أدري لماذا يرتبط سوط العنج بتلك القبيلة أو الجنس البشري والذي أثر في التغيير في مملكة سنار ، هل كانوا يستخدمونها ويشتهرون بها ، علما بأن الشعب السوداني هو الوحيد بين شعوب العالم الذي تتحمل ظهوره تمزيق سياط العنج ، خصوصا إذا اختلطت عنده نفحات ( الجرتق) العامرة بالبخور والدلكة والصندلية والمحلبية ، ورؤوس العرسان أمامه مزدانة بالحريرة وفصوص العنبر والياقوت، وعلى رأسة حلقة من بودرة الصندل، وخصوصا إذا سمع صوت ( الدلوكة تخمج الأجواء وترج الأرض رجاً) والعريس يبجنه بالسوط أمام الغانيات وتحت وقع زغاريدهن.
كنت أعشق أنفاس أسواق “أم دورور” (عدة قرى في كردفان، تقام فيها الأسواق طوال الأسبوع بصورة دائرة)، وكنت انطلق للسوق بعد صلاة الفجر، رغم أني لأ ابيع ولا أشتري ، إلا أنني اذهب يوميا لأعبيء دواخلي بنفحات السوق الأولى في سني الإشراق وتلك النفحات حبلى بأنفاس الحوانيت لم تطمثها أو تشردها أشعة الشمس وقبل أن يبعثرها شهيق الباعة والمتسوقين.
كانت أسواق ام دورور تعج بأفياء عدة تتداخل فيها عطور الغانيات الآتيات من الريف بحجولهن وأسورة سن الفيل تزيّن سواعدهن، ورؤوسهن مترعة برائحة ( الكركار والودك) وتفوح من أردانهن رائحة الدلكة وعرق العافية، وتغطي أجسادهن( تفتتة الثياب الزرقاء ، وتزدان أنوفهن بأزمة الفضة وصدورهن (بالشّفِ وريال الذهب المجيدي).
تلك أيامنا وأنفاسها اللطيفة العامرة بالطيوب والتي استمتعنا فيها بالحياة البريئة العفوية والتذوق والأجواء الصافية ، والفراغ العريض بعيدا عن ضجيج هذه الايام وانبعاثات سموم العوادم في الأجواء وطمس كل الحواس.
الرفيع بشير الشفيع