من أدق ما وُصف به الراحل محمد إبراهيم نقد أنه راهب سياسي. وتنبع قيمة هذا الوصف من أنه يوطن الفقيد في الجيل اليساري الأربعيني. وهو جيل “مفطوط” في التأرخة للفكر السوداني. فمؤرخو الفكر ينطون من جيل الثلاثينات، جيل الهوية، إلى جيل الستينات، جيل الهوية الآخر. وجيل الأربعينات أخطر وأنفذ. فهو الذي جاء بسنة التفرغ لوجه القضية الوطنية من موقع الكادحين. افترع السكة أستاذنا عبد الخالق محجوب وهو ابن اثنين وعشرين عاماً في ١٩٤٩. وتنادوا لنار القضية كالفراشات. وتميز عنهم نقد، الذي أعقبهم بسنوات، بأمرين. فقد جاء للتفرغ ولم يعلق بجيبه وضر “الماهية”. فحتى عبد الخالق انحنى للوظيفة إكراماً للأسرة وذاق مرتب شهر أو شهرين اشترى منهما جهاز راديو لها وشهلهم للعيد. ثم امتعضت نفسه وعاد لنار الشعب المقدسة. وعمل المرحوم التجاني الطيب بالأحفاد نوعاً ما. أما الأمر الثاني الذي ربما شاركه فيه واحد أو اثنان فهو طول تخفيه بتحت الأرض الشيوعي حتى بلغ نحو ثلث القرن. ولم يأذن العمر بالطبع لآخرين بهذه الخصيصة.
وفر جسد نقد المسجى الآن، وجسد التجاني قبله، للسودانيين أن يقرأوا كتاب ذلك الجيل بما لم توفره مذكراتهم الغائبة إلا التي لكامل محجوب وعلي محمد بشير ومصطفى السيد. ولا حملت فدائيتهم للناس أدوات الفن والتسجيل التي يبرع فيها الشيوعيون غالباً. ووجد الناس على بينة الجسد المسجى في الشيوعيين ما عرفوه عنهم من وطنية في قرارة أنفسهم وأنكروه لجاجة بالخوض في “عمالتهم” و”غربة” أو استيراد فكرهم. واللجاج حبله قصير. فجسد نقد المسجى يشع الآن كالقناديل السماوية على خلفية ظلام مطبق لاقتصاد للباطل: ” لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ” استعبد فيه “القرش” من ولدتهم أمهاتهم أحراراً. ولا مهرب من هذه القراءة المنصفة الآن لنص جسد نقد والناس يرونه يترك الفانية ولم يعلق به منها شيء بينما يتفانى فيها القوم: يتطاول المعمار ويشحُب الوجدان. وجعل سادة هذا الاقتصاد منها حقاً “داراً للخنا والتبذل” في قول عبد الله الطيب.
الجسد نص قح في معنى أنه سيد الأدلة في القضية. وسبق لي في هذا السياق أن عرضت جسد المرحوم محمود محمد طه كمحكمة لقتلته. فليس منهم من ترهبن رهبنته في طلب الحق وجهر بما عرف منه. وتدلى جسده من المشنقة كالمانجو لمعة ونضجاً فأخذى مغتاليه إلى يوم الدين. كذلك ينصب جسد نقد (الذي لم يدخل غمده بعد) مجتمع اقتصاد الباطل في محكمة. فيرى سادة هذا الاقتصاد بأم عينهم جسداً، رقيق خيط شلة، احتسب (في عبارة موفقة لمحمد عبد الماجد) عمره للكادحين. لم يضق بعقيدته ٦٠ عاماً حسوما بينما يخلع آخرون عقائدهم عند كل بارقة.
بزهادة نقد المبدئية والتزامه المستضعفين لعقود استطالت صاهل أقانيم الصوفية العتيقة:
دنيا يملكها من لا يملكها
أغنى أهليها الفقراء
طبت حياً وميتاً يا رفيق.
“من كتابي القادم وعنوانه مؤقتاً “فانوس البندر: الماركسية السودانية”
عبد الله علي إبراهيم