تمهيد:
من خلال مناقشات مع مجموعة من الفاعلين السياسيين ومن خلال مشاورات مع بعض الكتاب والسياسيين السودانيين من أصحاب النظر، ممن جمعتنا بهم مشتركات ولم تجمعنا بهم رابطة حزبية بل الهم الوطني العام فقط، توصلنا لكتابة رؤية طرحتها حركة المستقبل للإصلاح والتنمية بعنوان (الرؤية الوطنية لمخاطبة واقع الحرب) ونُشرت من خلال مؤتمر صحفي بتاريخ ٢٠ مارس ٢٠٢٤م وما دفعني لكتابة هذا المقال هو إطلاعي على رؤية منشورة بتاريخ يوم 4 أبريل من (جبهة تقدم) وهي تجمع لقوى الحرية والتغيير مع بعض الحلفاء القدامي لها وبعض شخصيات المجتمع المدني الذي يُمثل واجهة لقحت نفسها ولكوادرها. قرأت رؤية جبهة تقدم المنشورة بعنوان (رؤية لإنهاء الحرب وإعادة بناء الدولة السودانية). لم أهتم كثيرا
بالسياق العام الذي طُرحت فيه هذه الرؤية والصراعات الداخلية وسط مكونات جبهة تقدم، ولم أهتم كذلك بالدعم الخارجي المالي واللوجستي لهذه الجبهة، فهذا الأمر صار ثابتا وحقيقة مؤكدة عند الجميع، لكني صوبت التفكير نحو النص والمحتوى السياسي لهذه الرؤية، محاولا مناقشة بعض جزئياتها المهمة بمرجعية (الرؤية الوطنية لمخاطبة واقع الحرب)
* المبادئ والمرتكزات وجذور التطابق بين مليشيا الدعم السريع وجبهة تقدم:
إن خلافنا مع مبادئ رؤية تقدم أنها وفي مجملها مبادئ لا تتصل بعملية وقف الحرب بل تتصل بالمشروع السياسي الخاص بتقدم، وبالتالي فإن لسان حال تقدم يقول: لن تتوقف الحرب مالم يُطبق المشروع السياسي الذي نطرحه. هذا الموقف لوحده من شأنه إطالة أمد الحرب كون أن طبيعة مشروع تقدم نفسها كانت سببا رئيسا في قيام الحرب، فمراجعة الاتفاق الإطاري قبل الحرب تقودنا لفهم أن مسألة الإصلاح الأمني والعسكري بطريقة تقدم هي السبب الرئيس في قيام الحرب وتلك ملابسات أوضحناها في عدة مقالات وخطابات وأكدها خطاب لقائد التمرد وخطابات لقادة المؤسسة العسكرية حول أسباب الخلاف. إن الإصرار على أن الحرب يجب أن تتوقف بمشروع سياسي لفصيل تقدم يعني أنهم يزيدون تعقيد عملية وقف الحرب والتي يجب أن تكون بطريقة مختلفة. بالرجوع (للرؤية الوطنية لمعالجة واقع الحرب) التي نتبناها فإن المبادئ اللازمة لوقف الحرب تتصل فقط بمدأين إثنين لا ترغب تقدم في تبنيهمها لأسباب تتعلق بنزعتها السلطوية: المبدأ الأول: هو رفضنا التكسب من الحرب وذلك من خلال التمييز بين الجانب الإنساني والجانب العسكري والجانب السياسي، وبالتالي لا يجب أن تكون إجراءات وقف الحرب مُتصلة بطرح سياسي سيكون محل خلاف بالضرورة. وهنا تحديدا يتأكد لك عزيزي القارئ أن رؤية تقدم طابقت تماما موقف الدعم السريع السياسي. فهي لم مثلا لم تذكر أهمية تنفيذ إعلان جدة 11مايو في الرؤية أبدا، في حين أن هذا الإعلان الخاص بحماية المدنيين هو المدخل السليم والرئيس لوقف الحرب والعدائيات والسبب في أن تقدم تكره إعلان جدة ١١ مايو هو أنه ينص على أن تنفيذه يقوم على حماية المدنيين ولا يقوم على موقف سياسي لأي طرف، وأن حماية المدنيين وسريان المساعدات لا يجب أن يكون مشروطا بالموقف السياسي، أما الطرح السياسي لتقدم وللدعم السريع فهو يقول عكس ذلك تماما لذا هم يتجاهلون إعلان جدة 11 مايو. أما المبدأ الثاني فهو تبني رؤية عملية لاستدامة وقف الحرب من خلال إكمال المراحل بشكل متدرج ومتعاقب، تبدأ بالمرحلة الإنسانية من خلال تنفيذ إعلان جدة 11 مايو ثم تنتقل للمرحلة العسكرية وتطوير الجوانب العسكرية الأولية المذكورة في إعلان جدة نحو اتفاق وقف إطلاق النار ثم تبدأ بعد ذلك العملية السياسية أي بعد اتفاق وقف إطلاق النار.
أما طرح (تقدم) يختلف تماما فهم يتبنون مرتكزات لوقف الحرب الدائرة شديدة التعقيد فمثلا نجد قضايا فكرية مثل سؤال الدين والدولة كجزء من هذه المرتكزات وكأن الحرب قامت لتجيب على هذا السؤال، وكذلك نجد سؤال نظام الحكم وبناء جيش قومي مهني وخروج المنظومة الأمنية من الأنشطة الاقتصادية بدون حتى تعريف للمشكلة والسياسة الخارجية..الخ عليه من يقول أن الحرب يجب أن تتوقف على هذه المرتكزات المعقدة فهذا معناه أن الأطراف المتقاتلة في الميدان هي أطراف تتقاتل من أجل هذه القضايا، أو أن أحد الأطراف يحمل هذه القضايا فعلا. والواقع غير ذلك تماما فرواية الجيش واضحة وتدور حول أن المشكلة هي تمرد وانقلاب ومؤامرة ضد الدولة بينما رواية الدعم السريع وبكل إجرامها تشترك مع قحت في المبررات الكاذبة حول الديمقراطية والجيش المهني والتأسيس وغيرها، فهل يا ترى تخوض مليشيا الدعم حربا من أجل غايات سياسية تأسيسية حقا؟ وهل تركيب المليشيا وتاريخها ونشوئها وممارساتها تؤهلها أصلا لخوض حربا نبيلة من أجل غايات سياسية؟ ثم أليس من الأولى مخاطبة الجوانب الإنسانية والعسكرية لوقف الحرب بعيدا عن الجوانب السياسية والفكرية التي هي محل خلاف وتحتاج لبيئة مهيأة للحوار. إن جبهة تقدم بهذه المبادئ تمنح المليشا الغطاء السياسي والمبررات الأخلاقية الكافية للاستمرار في الحرب.
العملية السياسية عند جبهة تقدم والعيش في أوهام الماضي:
قوى الحرية والتغيير عموما وعبر جبهة تقدم مصابون بمتلازمة مرض الكيزانوفوبيا الذي ذكروه وحاولوا نفيه في رؤيتهم، هذه الحالة المرضية تجعلهم بعيدين عن فهم الواقع الحقيقي، وما يجب أن تعلمه تقدم أن الواقع قد تغير بشكل جذري بعد الحرب، وأن الشعب السوداني قد وضع شروطا جديدة للسياسية هي: لا سياسة إلا داخل السودان ولا تهاون في السيادة الوطنية.
وفق هذين الشرطين تحتاج تقدم لإعادة موضعة خطابها ورؤاها بشكل جذري، وهذا التموضع الجديد مهم وضروري لصالح السودان لأنه سينقل الصراع السياسي من (الحالة الصفرية) للحالة الإيجابية الحوارية القابلة لخلق مساحات مشتركة من أجل الوطن. ولكن هل تمتلك تقدم النضج الكافي لإدراك هذا التحول؟ وإذا لم تكن تمتلك هذا النضج ما موقف الشعب السوداني وقواه الوطنية منها كقوى غير ناضجة؟
للأسف تقدم لا تمتلك النضج ولا الإرادة السياسية لتدرك طبيعة التحولات الكبيرة التي حدثت في البلاد بعد الحرب والتي دفعت الآلاف للدفاع عن أنفسهم مصطفين مع القوات المسلحة السودانية، لقد بدأ تشكل لعقد اجتماعي وطني داعم لبقاء الدولة الوطنية من كافة المجموعات السودانية، فما يحدث في الجنينة يتأثر له إنسان الشمال والشرق والجنوب، وما حدث في الخرطوم أصاب الجميع. بل تطور الأمر لتحالف عملي راسخ بين حركات مسلحة كثيرة كانت ترفع بندقيتها في وجه الجيش لتقاتل اليوم بجانبه لتمتد تلك التحولات وتشمل الخطاب السياسي العام والرأي العام وسط كل الفئات والطبقات الذي صار مساندا لخطوط السيادة الوطنية ودعم القوات المسلحة السودانية.
أبرز مثال لهذا التحول تجده في طبيعة (الترندات) التي تتصدر السوشيال ميديا، والمتابع يدرك جيدا أن جبهة تقدم/قحت لم تتمكن خلال عام كامل من النجاح في نشر خط إعلامي مع كل منصاتها والجهات الإعلامية الداعمة لها والفرص الكبيرة والتسهيلات التي تجدها، مثلا هاشتاق (جيش واحد شعب واحد) ينتصر انتصارا ساحقا على كل محاولاتهم المخجلة للتضليل.
هذا التحول الكبير تعجز قحت وجبهتها تقدم عن فهمه، لذلك من يطلع على رؤية تقدم للعملية السياسية يرى إيمان تقدم المطلق بالخارج وأنها لا تزال منطلقة من تحليل خاطئ للواقع ومهجسة بعملية وضع الشروط لتنتج (سياسة صفرية) من خلال تحالف بذات النمط القديم النازع نحو السلطة بأي ثمن والرافض للحوار السوداني الشامل.
إننا ندرك جيدا أن قحت بهذا تزيد الوضع تعقيدا من خلال تبني رؤى خاطئة تزيد الصراع بل وتعيق من خلال تحالفها مع الدعم السريع أي تطور للحل، ولكن متغيرات الواقع تقول أن قحت (عرض) زائل والسودان (جوهر) باق، قحت ستذهب مع الريح والوطن يبقى شامخا، لذا فإن الاستمرار في المراهقات السياسية والشطح والتطرف والغلو وخطاب الكراهية يجب أن يدفع الإرادة الوطنية نحو تجاوز وجود جبهة تقدم من الأساس، والتركيز على ما ينفع الناس فأما الزبد فيذهب جفاء.
إن (الرؤية الوطنية لمخاطبة واقع الحرب) التي نتبناها تختلف عن رؤية قحت في أنها تؤكد شروط ألا سياسة إلا داخل السودان وألا تهاون في السيادة الوطنية بجانب أنها رؤية لا تنزع نحو السلطة والنيل منها بل تقوم على أساس أن الفترة الانتقالية ليست فترة لحكم الأحزاب السياسية وأن المهم هو التوافق على أسس الحوار (السوداني – السوداني) ودعم مؤسسات الدولة لتؤدي مهام التشغيل اللازم للدولة وجهازها؛ بمافي ذلك المساعدات الإنسانية وإعادة الحياة لطبيعتها. الحوار السوداني السوداني يشمل الجميع بلا تردد فالواقع الكارثي والخطر المحدق بالبلاد يستدعي هذا التقارب والذي نراه بين كثير من الفاعلين يمينا ويسارا.
أخيرا: ماهي تقدم؟ وماهي القوى المدنية؟
إن طرح جبهة تقدم يقوم أساسا على ذلك التضليل الذي يبدأ من التسمية نفسها كونهم يقولون أنهم يمثلون كل القوى المدنية ويحاولون إقناع الأطراف الدولية بذلك، لكن الخريطة السياسية في السودان معقدة جدا وإذا أردنا العودة لقراءتها وفق التركيب الاجتماعي والطبقي وهذا هو الأسلم سنجد أنفسنا أمام تنوع تتقاصر عبارة القوى المدنية civilian forces المبهمة عن وصفه. فما هو معنى قوى مدنية؟ هل تأتي مقابل قوى عسكرية military forces . هذا ما تحاول أن توهمنا به دعاية تقدم/قحت المضللة بقصد احتكار كل الفضاء المدني. الحقيقة أن هناك أشكال تنظيم كثيرة في السودان بين الريف والحضر وتتباين هذه التنظيمات وفق معايير كثيرة وأقصى ما يمكن قوله أن جبهة تقدم/قحت هي جزء ضئيل من بعض الشرائح الحضرية وليست كل القوى الحضرية urban forces فهناك قوى حضرية ومدنية وشبابية كثيرة ضد تقدم، وطبعا هي بعيدة كل البعد أو متناقضة أشد التناقض مع أشكال وهيئات قوى الريف مثلا rural forces إن تقدم بهذه المحددات والتي يمكن توسيعها في مقال منفصل هي بعيدة كل البعد عن تمثيل الفضاء المدني أو المجتمع المدني السوداني وبالتالي لا معنى لاستخدامها لعبارة القوى المدنية.
عليه فإن الخلاصة البسيطة هي:
على جبهة تقدم أن تبدأ مراجعات جذرية لنفسها ولخطابها ولذاتها ولأسس عملها ولأخلاقها السياسية غير الوطنية، وإذا فعلت ذلك ستخدم نفسها والبلد نحو الحل، وإذا لم تفعل فإن القطار الوطني لن يتوقف من أجل (شلة عملاء) في الخارج.
* أدناه صورة لمصفوفة الرؤية الوطنية لمخاطبة واقع الحرب.
هشام عثمان الشواني
٧ أبريل 2024م