قال الرئيس السيسى، فى يوم 11 سبتمبر 2021، فى الحلقة النقاشية تحت عنوان، حقوق الإنسان، الحاضر والمستقبل: «… لما طالبت بتوثيق الطلاق ورُفض من المؤسسة الدينية، منشفتش دماغى، ومعملناش صدام، مش رفض للصدام فى حد ذاته، ولكن احترامًا لمنطق الزمن، واحترام الآخر فى حرية الاعتقاد، أو اللااعتقاد.. كل إنسان حر فى اعتقاده، بس ده مش معناه استهداف مصر، وفرض مسار فكرى علينا..».
هكذا تحدث الرئيس السيسى إلى الشعب المصرى، وأمام جميع المسؤولين فى الدولة المصرية، ضاربًا بكلمات واضحة، جذور الدولة الدينية، التى تم إرساؤها منذ زمن طويل، ولم تنجح مصر فى استئصال مفاصلها، ومحاربة توغلها منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى. وكان أبلغ تعبير عن اختراقها مؤسسات الدولة، وعقل ومزاج الأغلبية، هو وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم 2012.
على حسب معلوماتى ومتابعتى، فإن الرئيس السيسى، أول رئيس لمصر، يتكلم عن «حرية اللااعتقاد»، أو حتى يجيب سيرة الحرية، من أساسها بأى شكل. الرئيس يتكلم عن حرية اللااعتقاد، ومتى؟؟، فى وقت متشبع بالفكر الإخوانى، والسلفى، وسيادة العقلية الإسلامية الإرهابية، النسخة الوهابية البدوية، مولودة ومترعرعة ومزدهرة فى شبه الجزيرة العربية. المهمة التى أنفق عليها المليارات من الدولارات، لمدة ما يقرب من خمسة عقود متتالية، لزراعة الدولة الدينية الذكورية، التى ستطبق شرع الله، وحدود الله، وتقيم الخلافة الإسلامية، وقد قضت على كل مكتسبات الدولة المدنية، ومعالم التنوير، واحترام النساء.
هذا حديث الرئيس السيسى، فى 2021، والذى انتهى بإعلان أن 2022 سنة المجتمع المدنى.
لكن وكما قال الرئيس فى الحلقة النقاشية نفسها: «كلامنا كتير وجميل، ولا يوجد تنفيذ». لم تبدأ أى مؤسسة من مؤسسات الدولة فى تحويل كلام الرئيس الى أفعال، وممارسات، وشغل وطنى جاد، ومتابعة مستمرة، فى تجديد الخطاب الدينى، وإرساء عقلية حرية المعتقد واللامعتقد، وترسيخ اللغة المدنية.
وهنا يواجهنا واقع فريد من نوعه.. وهو أن يكون الحاكم أو الرئيس، أكثر انفتاحًا، ووعيًا، وتقدمًا، من الشعب.. وأن يبادر هو، وليست مؤسسات الدولة، بضرورة التغيير فى تجديد الخطاب الدينى، وفى توثيق الطلاق. وقد رفض الأزهر، المبادرتين.
لقد استعدت هذه المشاهد كلها، فى شريط متصل متتالٍ، وأنا أتابع جريمة قتل، حدثت خلال الأسبوع الأول من رمضان، والتى ما كانت تتم، لو أننا صدّرنا للناس خطابًا دينيًا، وإعلاميًا، وثقافيًا، وتعليميًا، يحارب العقلية الإسلامية المستوردة، التى نخرت فى عظام الوطن، وأمرضته بالوصايا الدينية، والاستعلاء الدينى، والغطرسة الدينية، والاستعراض الدينى، والمزايدات الدينية.
فى أحد مستشفيات القاهرة، توجد كافتيريا يملكها أحد المواطنين، لكنها لا تقدم مأكولات أو مشروبات فى نهار رمضان. تصادف أن جاء أحد عمال النظافة فى المستشفى، وأخذ يرتب وينظف المكان. لاحظ صاحب الكافتريا أن العامل يشرب سيجارة. ذهب له قائلًا:
«اطفى السيجارة دى حالًا، ده احنا فى نهار رمضان». رد العامل: «أنا فاطر مش صايم، إنت مالك، مش هاطفى السيجارة». غضب صاحب الكافتيريا، وخطف السيجارة من العامل ورماها. واشتد الجدال بين الاثنين، فما كان من العامل إلا أن أخرج سكينًا وضرب صاحب الكافتيريا طعنة واحدة، فمات على الفور.
قال الإعلامى معلقًا على الجريمة: «احنا وصلنا إزاى للمستوى ده؟!.. كده علنى فى نهار رمضان الراجل بيشرب سيجارة، من غير خشى ولا دم.. إزاى اتجرأ على ربنا بالشكل ده، ولا عنده احترام للشهر المبارك، ولا بيحترم مشاعر الصايمين.. يا أخى لو هتموت على سيجارة استخبى فى حتة، ولا خش الحمام.. إذا بليتم يا أخى فاستتروا.. وصاحب الكافتيريا اللى مات ده ذنبه إيه.. بيدافع عن دينه، وربنا عز وجل بيقول منْ رأى منكم منكرا فليغيره بيده أو بلسانه أو بقلبه وهذا هو أضعف الإيمان.. لازم يكون فيه عقاب رادع لواحد زى ده.. دا المسيحى بيحترم مشاعر المسلمين، فى رمضان ومبيفطرش علنًا».
هذا تعليق ربما يكون مقبولًا، فى الدولة الدينية. لكنه فى دولة مدنية مثل مصر، مرفوض، وليس له تفسير، إلا أننا محاصرون إعلاميًا وثقافيًا وتعليميًا، بخطاب يعادى مدنية الدولة، ومناخ إرهابى يفرض الوصايا الدينية، ويعطى مساحة كبيرة لنشر التعصب الدينى، واللغة الدينية وانتهاك حرية الأفراد واغتصاب حقوقهم، داخل أوطانهم، باسم الإسلام والدين، بالإضافة إلى أنه يرسخ للكراهية، وللكذب والنفاق، ويعلم الناس الخوف، وعدم التمسك بحقوقهم، لأنه يعامل الجهر بالإفطار، وكأنه رذيلة أو معصية، وجب إخفاؤها فى الحمام. وهذا فعلًا ما يحدث على أرض الواقع.
الإعلامى يمدح سلوك صاحب الكافتيريا، لأنه يغير المنكر بيده. وهذا إرهاب علنى، لو تركناه سوف يمتد إلى كل سلوكيات الحياة. فى السعودية تم إلغاء هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، التى تطارد الناس وتعتدى عليهم، فى أوقات الصلاة، أو عدم لبس الحجاب. وفى إيران، أُلغيت شرطة الأخلاق، أو شرطة الآداب، عام 2022 التى كانت تعتقل منْ لا تلبس الحجاب، أو ترتدى ملابس غير مرضى عنها، وذلك بعد تسببها فى مقتل مهسا أمينى. لكن «طالبان» فى أفغانستان، بالطبع تسير الى الخلف، حيث أغلقت وزارة شؤون المرأة، 2021 وأنشأت بدلًا منها شرطة الأخلاق، ومنعت النساء من الدخول إلى مقر أعمالهن، وأرجعتهن إلى البيوت.
وما معنى احترام مشاعر المسلم الصائم؟؟. ولماذا لا يحترم المسلم الصائم، مشاعر غير الصائم؟؟.
إن الناس يؤمنون بالأديان، لعلهم يشعرون بالمزيد من الحرية، طالما أنهم لا يعتدون على أحد لفظيًا أو جسديًا. وليس مضاعفة للقيود والمحظورات. هذا المفهوم، كان بإمكانه تجديد الخطاب الدينى من جذوره، كما طالب الرئيس منذ عشر سنوات.
كما أوضحنا سابقًا إن الرئيس السيسى «منشفش دماغه، ومعملش صدام» لأنه يحترم منطق الزمن وتغيير الناس. لكن الرئيس يدرك جيدًا أن حماية مصر ضرورة، وليس تنشيفًا للدماغ، أو حبًّا فى الصدام. ومنطق الزمن، الذى يرجعنا إلى الوراء، يجب تعديل مساره، وفضح هدفه، والمرتزقين من دفعه، وتدعيمه.
فى 3 مارس 2024، مرت مائة عام على سقوط الخلافة الإسلامية، أحد أهم إنجازات مصطفى كمال أتاتورك 19 مايو 1881 – 10 نوفمبر 1938، والتى تمثلت فى سيطرة العثمانيين على مساحات كثيرة من العالم، أربعمائة وسبعة سنة، من سنة 1517 حتى 1924.
سقطت الخلافة الإسلامية، أو الإمامة العظمى، التى تقوم على استخلاف قائد مسلم للحكم بالشريعة الإسلامية. وهى عند أهل السُنة والجماعة، كفاية عين. وعند الشيعة هى ركن من أركان الاسلام. وهى تؤسس وتتوسع باعتناق الإسلام السياسى، أو الإسلام الحربى، أو الجهاد فى سبيل الله، بالقتال، والدم، والاحتلال.
لكن الحلم باستعادة الخلافة، ما زال موجودًا، وحيًّا يُرزق. وبدأ التخطيط فورًا بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين فى مصر 1928، وكانت الرحم التى أفرخت كل الحركات الإسلامية الجهادية الإرهابية.
لابد إذن أن نقاوم اللغة الدينية، ونفسد على جنودها وحلفائها، خطتهم وغايتهم، من هذا المنطلق التاريخى الأعم. خطة لئيمة، وغاية خبيثة، تستغلان الجهل والعواطف الدينية الساذجة، والأزمات الثقافية والاقتصادية والفقر والإحباط، وكثرة التناسل، وفساد بعض النخب المؤثرة على الرأى العام، والمزاج العام.
لابد من تطهير الأداء الثقافى والتعليمى، بشكل صارم، من مروجى اللغة الدينية، وترسيخها فى العقول والوجدان.
ميثاق شرف وأخلاقيات وممارسات الدولة المدنية. هذا ما يمليه علينا، حب الوطن، وحمايته.
ِختامه شِعر
منذ أزمنة بعيدة
والملايين من الناس
صائمون عن حلو المذاق
يدق مدفع الإفطار
فلا يجدون إلا الموت
ساخنًا فى الأطباق
د. منى نوال حلمي – المصري اليوم