في عام 1934 كان المصريون على موعد مع افتتاح الإذاعة المصرية الحكومية. قبل هذا التاريخ عرفت مصر المحطات الأهلية منذ منتصف العشرينات من القرن الماضي، وهي محطات كان يبثها أفراد، واهتم بعضها بتقديم محتوى جيد مسل، غنائي أو زجلي أو حكائي أو غير ذلك، أما بعضها الآخر، فبدا ضعيفاً من الناحية الفنية، وكانت تهاجم بعضها البعض بأسلوب بعيد كل البعد عن قواعد الأدب والذوق السليم، كما يقول الراحل الكريم الدكتور “خليل صابات” في مرجعه الفريد: “وسائل الاتصال: نشأتها وتطورها”.
وقد توقفت هذه المحطات عن البث في 29 مايو عام 1934، لتترك مكانها للمحطة الحكومية التي بدأت إرسالها بعد ذلك بيومين، أي في 31 مايو 1934.في ذلك الوقت كان الشيخ “أحمد ندا” قد توفي، قبل نشأة الاذاعة بعامين (1932)، أما الشيخ “علي محمود” فكان عمره يناهز الـ56 عاماً، وكان العمر قد جرى بالشيخ “محمد رفعت” أيضاً حتى ناهز الـ52 من عمره، وكان هناك من يصغره في العمر مثل الشيخ “عبد الفتاح الشعشاعي” والشيخ “محمد الصيفي”، ورغم ذلك اتجه القائمون على أمر الإذاعة المصرية الرسمية إلى الاتفاق مع الشيخ محمد رفعت ليكون صوته أول ما يصافح أذن المستمع المصري، بما حباه الله من قدرة على “أسر الأذن” والتسرب إلى القلب، ليذوب المستمع في المعنى الذي يسمعه.
وفي يوم 31 مايو من عام 1934 انطلق صوت المذيع أحمد سالم قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم.. هنا القاهرة.. الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية تفتتح برامجها”، كما يحكي الإعلامي الراحل علي خليل في حوار تليفزيوني له مع الراحلة سامية الأتربي في برنامج حكاوي القهاوي، بعدها قال: “نبدأ برنامج الافتتاح بما يتيسر من آيات الذكر الحكيم للشيخ محمد رفعت”.. بعدها انطلق صوت الشيخ يتلو من سورة “الفتح”: “إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر”.
رفض الشيخ رفعت في البداية بث القرآن على أثير الإذاعة، ظناً منه أن في ذلك نوعاً من الحرمة، لأن الإذاعة تذيع الأغاني إلى جوار القرآن الكريم، ويقال أنه حصل على فتوى بعدم وجود مانع شرعي في ذلك. وقد ذكر رحمه الله في حوار له مع مجلة “الاثنين والدنيا” أنه لم يقبل التعاقد مع محطة الإذاعة، إلا بعد أن حصل على فتوى من فضيلة شيخ الأزهر، وفضيلة مفتي الديار المصرية، بأن إذاعة القرآن في الراديو حلال.
وقد أبرم الشيخ “محمد رفعت” عقداً رسمياً مع الإذاعة لبث القرآن على الهواء إلى المستمعين المصريين، وكانت مدة العقد سنتين قابلة للتجديد، يحصل بمقتضاه على ثمانية جنيهات في التلاوة.ويقال أن الشيخ “محمد رفعت” رفض تسجيل القرآن الكريم للإذاعة بصوته. وقد حكى الأستاذ “السيد الغضبان” في حوار له مع الراحل “أحمد فؤاد نجم” أن النجل الأكبر للشيخ “محمد” حذر والده من أن الإذاعة إذا سجلت له القرآن فقد تستغني عنه، وشكك في هذه الرواية، وعنده حق في ذلك، وحتى لو كان النجل قد قالها للشيخ، فظني أن الشيخ لم يقتنع بها، فقد كان رجلاً زاهداً في الحياة وفي المال، يدلل على ذلك الكثير من المواقف الثابتة، والشهادات الموثقة التي تدلل على ذلك.
المسألة في الأول والآخر كانت نوعاً من القلق من أن يكون في تسجيل القرآن الكريم على أسطوانات إخلال بقدسية الكتاب الكريم، وقد كان الشيخ حريصاً كل الحرص على صون هذه القدسية، وظني أنه لما اطمأن في ذاته، أو عبر فتوى سمعها، إلى أن المسألة ليس فيها شىء سمح بالتسجيل، وقد سجلت له الإذاعة بعض التلاوات، خلال السنوات الأخيرة من حياته قبل أن يصيبه مرض سرطان الحنجرة، وربما كان كسل المسئولين عنها سبباً في ضياع الثروة الأدبية الكبرى التي كان سيمتلكها هذا البلد، لو سُجّل القرآن كاملاً بصوت مولانا الشيخ محمد رفعت.
د. محمود خليل – الوطن نيوز