رغم التغيّر المستمر في “قوانين فوضى الحرب” تظل هناك بعض الأنماط الثابتة والتي لا تتغير كثيراً، يمكننا من خلال تتبع هذه الأنماط إيجاد قراءات مستقبلية عن الوضع الميداني، تُصيب أو تُخطئ بتغيّر العوامل وابرزها الخارجية، وفيما عدى ذلك، تظل إمكانية استشراف الوضع الحربي العام ممكنة.
بالنظر إلى ميليشيا الدعم السريع فسنجدها آلة حربية تُركز على الهجوم بصورة همجية حيث تعتمد على أسلوب قتالي في الهجوم الأقصى (impetum maxima) يجعلها هذا الأسلوب وفق المعطيات اللوجستية لهم في إطار قتالي واضح.
تعتمد ميليشيا الدعم السريع على جلب وتجميع الإستعداد الحربي (جنود، مؤن وذخائر) على فترات ثابتة تمتد من بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، ثم الشروع في هجمات متواصلة نحو هدفهم بكثافة نيرانية وبشرية هائلة بدون وجود خُطط ميدانية حقيقية حيث يتم الإعتماد على المُرتزقة واللصوص في الخطوط الأمامية بتكتيك “قدام بس” الذي تصحبه نيران أرضية كثيفة من محور أو أثنين. في حين ينجح أسلوبهم القتالي في بعض الأحيان من إغراق دفاعات الجيش إلا أن لهذا الأسلوب حدود مهمة، فسنجد أن متوسط هجماتهم المستمرة -على موقع واحد- هو ٧٢ ساعة ولا يتجاوز الخمسة أيام (وهو بحد علمي ما حدث مرة واحدة في هجماتهم على المدرعات)، ويحتاجون إلا ما لا يقل عن ٣-٤ أيام في المتوسط لإعادة ترتيب الهجوم، فالاسلوب الهجومي الذي يعتمد على دفع الكتل البشرية بكثافة نيرانية عالية يخلق إجهاداً على سلاسل إمداد الميليشيا، فكمية الذخائر التي يستنزفونها في هجماتهم تحتاج إلى إعادة التشوين بوتيرة عالية،
فبرغم ضخامة إمدادهم الخارجي إلى أن شحنات ذخيرتهم تنفذ بصورة أسرع من قدرة سلاسل إمدادهم على تعويضها مما يخلق فراغات تتمثل في فترات ضُعف الميليشيا وعدم قدرتها على شنّ أي هجمات، أيضاً الخسائر البشرية الهائلة المتمثلة في الموت والإصابات تخلق جهداً على منظومتي الراعية الطبية الحربية والتجنيد لدى الميليشيا، حيث أن عدد المصابين الهائل -الناتج عن الأسلوب القتالي المتهور- لدى الميليشيا يجعل من الصعب توفير الرعاية الطبية لهم وتُصبح الرعاية الصحية إنتقائية للضباط أو أصحاب القرابة من قيادة الدعم السريع،
وبما أن الميليشيا تعتمد في الأغلب على المرتزقة واللصوص الذين يتعاملون مع الميليشيا بعَقد عملٍ ينُص على “المعركة مقابل الغنيمة” فإن إشتداد القتال مع شح أو إنعدام الغنيمة وتراكم الخسائر يجعل المرتزقة يلقون أسلحتهم ويتركون القتال، مما يُجبر الميليشيا على إتباع أساليب أخرى في التجنيد، مثل التحشيد القبلي عن طريق التخويف أو التجنيد القصري وهو ما شاهدناه في الفترة السابقة من ميليشيا الدعم السريع بصورة واضحة.
على الجانب الآخر، نجد أن القوات المسلحة منذ بداية الحرب إنتقلت لوضعها ذو الأفضلية المُمتدة من قوة دفاع السودان في الدفاع المُطلق (defensio maxima) مما مكنها من الحفاظ على مواقعها العسكرية برغم الحصار والهجمات المتواصلة، الأسلوب القتالي الدفاعي ذو الأدوات المتعددة سمح للجيش بالصمود في أوضاع عسكرية صعبة وبأقل القدر من الخسائر في الجنود، المؤن والذخائر، ولكن جعل هذا الأسلوبُ الجيشَ يتأخر في معارك إكتساب الأرض مما جعله ساكناً لوقت طويل يخوض معارك استنزاف ضد ميليشيا أسلوبها القتالي أشبه ب”الزومبي” منه بالجيوش الأخرى.
ميزة الأسلوب القتالي للجيش انعكست في ترشيد الاستهلاك وعدم تشكيل ضغط على سلاسل الإمداد الحربي، فسنجد الميليشيا قد استنزفت جميع مواردها المحلية وانتقلت للإعتماد على الإمداد الإقليمي والدولي بصورة كاملة منذ الأسابيع الأولى في الحرب، في حين صمد الجيش لأكثر من عشرة أشهر بدون أي مساعدة، فحتى الجيش المصري -الحليف التاريخي- جلس في خانة المشاهدة بسبب سياسات البرهان الضبابية.
حتى الآن، إذا ما أجرينا مقارنة سريعة، سنجد أن الدعم العسكري الذي يتلقاه الجيش ضئيل جداً مقارنة بنظومة إمداد الدعم السريع الممتدة جنوباً من فاغنار في أفريقيا الوسطى، مروراً بتشاد وميليشات جنوب ليبيا وصولاً لحفتر في شرق ليبيا، الممول امارتياً بميزانية شبه لا محدودة، ولكن برغم هذا التباين الكبير في حجم الدعم، نجد أن الأسلوب القتالي للجيش هو الأكثر فعاليّة (more efficient) وعلى سبيل المثال، فإن الإمداد الذي وصل بعملية “الشهيد لقمان” إلى سلاح المهندسين مكّن جيش المهندسين من إكمال الربط بجيش كرري، وهذا الإمداد إذا ما أُعطي مثله لميليشيا الدعم السريع سنجد أنه لا يكفيهم لشّن موجة هجوم واحدة بسبب أسلوبهم القتالي.
ماذا إن انقلبت الأدوار؟
في حال تحوّل الجيش إلى وضع الهجوم، سنجد أن أسلوب الميليشيا الدفاعي يعتمد على عنصرين أساسيين: القناصة والكمائن، حيث أن قوات الدعم السريع الأساسية مُدرّبة جيداً على القنص مما يُعطل أي محاولة لتحرك الجيش كما أن إنتشار الدعم السريع مكنه من نصب عدد من الكمائن لمتحركات الجيش، ويتمثّل خط دفاع الميليشيا الأخير في ارتكازات مُشكّلة في الأغلب من المرتزقة تتجمع في “فزع” في حال بداية اشتباكات في أي نقطة بالقُرب منها وهو خط دفاع أخير هزيل جداً. شكّل هذا الأسلوب الدفاعي (وتحديداً القناصة) مُعضلة للجيش، حيث توقف عن الهجوم منذ أواخر أبريل المُنصرم، وشرع في عمليات تدريب واسعة كان هدفها الأساسي التغلّب على آليات الدعم السريع الدفاعية، وبعد أكثر من ١٠ أشهر من التدريب والعمل المستمر وجد الجيش “أكسير الهجوم” الذي يتناسب مع طبيعة المعركة وإمكانيات قواته، وكانت معارك أمدرمان الأخيرة خير مثال على فعالية الأسلوب الهجومي الجديد للجيش، حيث تمكّن من تحييد العنصر الأكثر فعالية للدعم السريع -وهو القناصة- ليدخل في معارك مباشرة مع دفاعات الميليشيا الأرضية التي أثبتت عدم جدواها، فبمجرد كسر خط الدفاع الأول يكون إنتصار الجيش قد اكتمل، فعلى سبيل المثال: بمجرد كسر الدفاعات الأولى في حي الملازمين، تمكّن الجيش من تحرير الإذاعة في ساعات قليلة، وكذلك حدث في “الشهداء” و”كبري ود البشير” حيث يصعب على الميليشيا التخلي عن أسلوبها القتالي الأساسي -المتمثل في الكثافة النيرانية المُركزة- في وجه تحركات وتكتيكات أفراد الجيش الذين يملكون المقدرة على شن هجمات طويلة الأمدمن محاور مُتعددة.
هل يُمكن للميليشيا أن تُغيّر من أسلوبها القتالي؟
برغم إمتلاك الدعم السريع قُدرة عالية على التأقلم، فإن محاولة تغيير أسلوبهم القتالي أشبه بعملية إعادة هيكلة المنظومة كاملة، فالمعضلة الأساسية التي تقف أمام الميليشيا هي أن أغلب قواتهم الآن هم مُرتزقة، وعيب المُرتزقة -مصحوباً بالأسلوب القتالي للجنجويد- هو أن دورة حياة المُرتزق قصيرة جداً، حيث ينضم للدعم السريع بعد أخذه لتدريب عسكري لا يدوم لأكثر من أسبوعين -إن وُجد أساساً- ليشارك بعدها في بعض المعارك ثم ينتهي عمره بالهلاك، الإصابة أو الهروب بالغنيمة ليحل مكانه مُرتزق جديد، لذلك نجد أن الدعم السريع يملك الكثير من المُقاتلين fighters وعدداً قليلاً من المُحاربين veterans، وعملية تغيير الأسلوب القتالي تعتمد بشكل أساسي على استثمارات طويلة الأمد عالية التكلفة (الزمنية والمادية) في الفرد الواحد، لتتراكم لديه الخبرة العسكرية الكافية لتشكيل فارق في أرض المعركة، وهو دور لا يمكن للمرتزق قصير العمر فعله، لذلك فإن محاولة تغيير الأسلوب القتالي للميليشيا بالتخلي عن مرتزقتها سيعني نهاية الدعم السريع لاختفاء الكتلة الأعظم من المقاتلين لديهم، فالخلاصة أن الأمر شبه مستحيل.
أما على الصعيد الآخر، فقد كانت معضلة الجيش الأساسية تعنّت -بعض- القيادات في مراكز القرار في تبنّي أساليب جديدة، ولكن برغم ذلك أثبتت المنظومة بأنها مثل “الحديد السوفيتي”، فبرغم قِدمها تظل تروسهم قادرة على الدوران في الإتجاه الصحيح، مما مكّن الجيش من خلق أسلوب هجومي جديد يتناغم مع الأسلوب الدفاعي للمنظومة.
نصر الله قوات شعبنا المسلحة وثبت أقدامهم وسدد رميهم.
#حرب_السودان
احمد الخليفة