تواترت الدعوات لإشراك الطبقة السياسة المدنية في مفاوضات إنهاء الحرب القائمة في السودان والترتيبات لما بعدها. وربما طرأ السؤال هنا، إن كان ثمة جدوى من هذا الإشراك لهذه الطبقة التي اعتزلت الحرب نفسها بتحويلها إلى فتنة مأثورة بين يمينها ويسارها. فلم تعد الحرب في خطابهما هي الحرب المشاهدة بين القوات المسلحة وقوات “الدعم السريع” بل هي حربهما “البسوسية” من عهد الطلب في الجامعات والمدارس بطريق آخر. وهكذا وجبت الخشية أن يفوت درس هذه الحرب البليغ على هذه الطبقة كفوت دروس أقل خطراً وأعمق دلالة مرت بهما عفواً حتى صح فيهم قول “ت س إليوت”: “عشنا التجربة وغاب المعنى”. وأكبر أبواب هذا الفوت هو امتناع هذه الطبقة عن النظر في فقه الحرب بالاصطفاف مع البندقية المختارة كيفما اتفق.
فأكبر وجوه استدبار “تقدم” لفقه الحرب فهو في محاسبتها أطراف الحرب على انتهاكاتهم. فإذا كانت قد سوغت لـ”الدعم السريع” خوض الحرب دفاعاً عن نفسه، كما رأينا، إلا أنها تعثرت كثيراً في أخذه بالشدة على انتهاكاته بحق المدنيين، إن لم تجزها عليه. فضربت بالحائط مبدأ التمييز في الحرب الذي يقصر الاستهداف في الحرب على العسكريين. وهو المبدأ الذي يقضي على المحارب التأكد من أن الهدف الذي اختاره عسكري لا مدنياً والامتناع عن ضرب الأخير بالكلية إلا بضوابط غاية في التعقيد.
ولم يكن بوسع حرب “الدعم السريع” إلا أن تكون حرباً ضد المدنيين بقدر ما هي حرب ضد العسكريين طالما استهدفت سياسياً، بل وجهوياً أو عرقياً، جماعات مدنية بعينها مثل الجماعات السودانية الشمالية النيلية من وراء دولة 56، أي تلك التي استأثرت بخيرات دولة الاستقلال دونهم في الهامش. وكانت أكبر مظاهر خروق “الدعم السريع” هي احتلال أحياء صفوتهم وغير صفوتهم، ونهب أموالهم وسياراتهم، وإكراههم على إخلائها بالعنف المباشر أو ترويعاً. ولم تجد الأقلام المنسوبة لـ “تقدم” في هذه الانتهاكات مخالفة لقانون التمييز في فقه الحرب، أي التمييز بين الهدف العسكري والمدني.
فبدا من هؤلاء الكتاب أنهم عدوا نهب هذه الدور، واصطلح الناس على تسميته بـ “الشفشفة”، غنيمة حرب لا غبار عليها. فيكتب أحدهم أن “الدعم” احتلها بالقوة ومن أراد نزعها فليطالعهم من ورائها وفيها، لأن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. وهذا طعن في الجيش المتهم عندهم بتخليه عن واجبه في حماية الأرض والعرض. ويجد آخر مبرراً لاحتلال “الدعم السريع” للبيوت على بينة أنهم لاذوا بها ليحموا أنفسهم من حمم طائرات الجيش. ومتى كف الجيش عن قصفهم، في قوله، غادروا هذه البيوت غانمين سالمين. ويرى ثالث أن إلحاح الجيش على خروج “الدعم السريع” من الدور والمقار، مجرد “ذريعة كيزانية” لإطالة أمد الحرب عساهم ينتصروا فيها ويعودوا إلى سيرتهم الأولى في الحكم. وهكذا استباح هؤلاء الكتّاب من “تقدم” المدنيين لـ”الدعم السريع”، وكأنه لم ينشأ بعد القانون الذي يحظر المساس بهم في الحرب. بل تجد من يصف قتال “الدعم السريع” بـ “الشرف” قياساً بقتال الجيش النذل. أو آخر يقول إنهم “أولاد قبائل” كان “نظام الإنقاذ” أفسدهم. وقد يوحي هذا بأنهم استردوا الآن معدنهم النبيل وهم يقاتلون من أفسدهم في عقر داره.
ووجد كتاب آخرون من “تقدم” أخيراً، سبيلاً آخر للنجاة بـ”الدعم السريع” من وزر ما أخذه الناس عليه من انتهاكات للمدنيين. فردوا أكثر ما “يشاع” عن هذه الانتهاكات إلى غيره ممن يريد أن يلطخ سمعتها. فأذاعوا أن هناك من يتنكر في زي “الدعم” ويفحش في الفساد. فزي “الدعم السريع”، على حد قولهم، مبذول لمنظمات الإسلاميين شبه العسكرية مثل الأمن الشعبي والطلابي، والاستخبارات العسكرية، وقوات هيئة العمليات. وكانت ولاية الجزيرة التي أزكم الضمير ما جرى في قراها وأهلها بعد احتلال “الدعم السريع” لها، برأيهم، مسرحاً لجرائم هؤلاء الفلول المنتحلين صفة “الدعم السريع” زوراً وبهتاناً. وزادوا بأن “زي الدعم” امتلكه حتى معتادو الإجرام الذين غادروا السجون قبل انتهاء فترات محكوميتهم في أول الحرب وفي ملابسات انهيار نظم الدولة. فأفسدوا ولطخ جرمهم “الدعم السريع” من حيث لم يحتسب.
وللإسلاميين مثل “تقدم”، حظ عظيم من الجهل بالحرب التي يخوضونها بالرأي وبالسلاح خلافاً لـ”تقدم” التي اكتفت بالرأي. ويستغرب المرء كيف لم يواقعوا هذه الحرب على فقهم الذي ما كفوا من رد كل حادثة إليه في مثل الديمقراطية مثلاً. فسبق الدكتور عشاري أحمد محمود، أستاذ اللسانيات، إلى تنبيههم إلى أن في خصائص الحرب القائمة ما يزكي الاصطلاح عليها كـ “حرابة” لا “حرباً”. وهذا باب في الحرب والثقافة زكاه أحد الأكاديميين بقوله إن ما نريده من دراسة حرب وقعت في غير الغرب أن ندرس كيف تحارب هذه الجيوش غير الغربية عدوها لا كيف يجب أن تحارب. وطلب بالنتيجة باستعادة الثقافة لحلبة النزاع ونظرياته لنتزود بنظر أثقب في دواعي الحرب والقتال فيها. وامتنع الإسلاميون عن الاجتهاد حول انطباق “الحرابة” على حربنا الدائرة علماً بأن قولنا إن ما نخوض فيه هي حرب على بينة من مصطلحها العالمي أخفى عنا الطاقة الإجرامية التي من ورائها. وهو إجرام يتفق علماء السياسة أنه سمة السياسة المعاصرة في بلدان العالم الثالث التي تزايل فيها الفاصل بين الجريمة والسياسة أو كاد. فسقطت السياسة في شكل الدولة في هايتي مثلاً لتستبيحها العصابات.
ويستغرب المرء لتكففنا مصطلحاً لما نحن فيه من ابتلاء، وفي فقهنا الإسلامي غنى. فالطاقة المجرمة في “الدعم السريع” كما تبين للجميع الآن مما اصطلحنا كمسلمين على وصفه بـ”الحرابة”، وهي البروز لأخذ المال أو القتل، على سبيل المجاهرة مكابرة اعتماداً على القوة مع البعد عن الغوث، والمحاربة عند السرخسي عادة قوم لهم منعة وشوكة يدفعون عن أنفسهم ويقوون على غيرهم بقوتهم، والمجاهرة هي أخذ المال قهراً، أي خطفاً، لا خلسة كالسارق. وانسكب حبر فقهي كثير حول “البعد عن الغوث” ومعناها ألا يكون من مغيث حاضر لمن اعتدى عليه المحارب. وجعل هذا الشرط الفقه يقصر وقوع الحرابة في الصحاري لا الأمصار حاضرة السلطان التي يلحق الغوث المستغيث. وصارت “الحرابة” بالنتيجة هي فعل قطاع الطرق حصرياً. ولكن مثل أبي حنيفة قال بوقوع الحرابة في الأرياف والأمصار إذا لم يلحق الغوث في كليهما لأي سبب من الأسباب، بل تجد من قال إن وقوعها في المدن في مثل الخطف والقتل والسرقة والنهب وتحريق المحال والمنازل، لجريمة أنكى لاستخفاف المحارب بالتجمعات البشرية فيروع أمنها متجرئ غير مبالٍ بقوة الغوث المنتظر. وهذه حالنا. فلم يكن للجنينة ولا الخرطوم ولا مدني ولا غيرهما مغيث حين ظهرت “الدعم السريع” لأخذ المال مكابرةً اعتماداً على القوة. فحتى الجيش اقتصر على الدفاع عن قيادته وأسلحته إلى يومنا. فإذا لم تكن هذه “حرابة” فما تكون؟
لا أدرى ما الذي ستأتي به الطبقة السياسية بأطيافها إلى مائدة المفاوضات للسلام والترتيبات لما بعده إذا كان حديثها المرجم الذي أتينا عليه عاليه هو كل علمته من الحرب وذاقته. والبادي أن الحرب التي تعركنا بثفالها لم تقع بحسب خطاب الطبقة السياسة، أو أنها وقعت ولكن كمجرد صدى للحاكي الذي هو هم في صراعهم الضرير الذي لا يبغون عنه حولاً. وحيال هذا يصعب على المرء تصور جدوى مثلهم في مفاوضات للفكاك من حرب عاشوا تجربتها وغاب عنهم معناها.
عبد الله علي إبراهيم