وحرب السودان تمضي نحو إكمال عامها الأول بخطوات حثيثة، يفقد الإقتصاد القومي مع مرور كل يوم قدرته على مواجهة الأحداث الدائرة وتنخفض المعدلات الإقتصادية إلى أدنى حدودها، فالعملة الوطنية تتآكل يومياً وتنهار أمام العملات الأجنبية، ومعدلات التضخم باتت من الصعب تحديدها بعد أن فقد الجهاز المركزي للإحصاء معلوماته وأجهزته بسبب تدمير مبناه في الخرطوم على يد مليشيا الدعم السريع، وتوقع البنك الدولي انخفاض معدل النمو الاقتصادي إلى سالب (18.3) %. وتقول تقارير غير رسمية إن خسائر الحرب تصل إلى 100 مليار دولار.
وبالمقابل تحاول الحكومة السودانية أن تواجه هذا الكم الهائل من المشكلات بمحاولة السيطرة على هذه المعدلات الضئيلة وجلب مزيد من الإيرادات لمواجهة بنود الصرف المتزايدة خاصة على المجهود الحربي، كما أكد ذلك وزير المالية السوداني، جبريل إبراهيم الذي أجاز في نهاية العام الماضي الموازنة دون الكشف عن تفاصيلها وأشار إلى أن هذه الموازنة تُراجع كل ثلاثة أشهر لمواجهة التطورات الإقتصادية.
وبحسب مراقبين، فإن إدارة إقتصاد الحرب تتطلب حزمة متكاملة من الإجراءات التي تساهم في خلق توازن بين الإيرادات والمنصرفات لتحقيق استقرار نسبي، غير أن الإقتصاد السوداني يعاني في الأصل من مشاكل هيكلية لا تمكنه من تحقيق الإستقرار المنشود.
مراجعة السياسات
ويرى رئيس غرفة المستوردين السابق، الصادق حاج علي، “أن إدارة إقتصاد الحرب تتطلب مراجعة السياسات المعمول بها وذلك لاستثنائية الظرف حتى وإن أدى ذلك إلى تجميد كل أو جزء من هذه السياسات”.
وشدد على وجوب أن تكون السياسة مرنة للغاية حتى تحقق مصالح المصدرين العاملين في ظروف معقدة وصعبة للغاية ومصلحة الدولة في الاستفادة من الصادرات.
وقال الحاج في حديثه مع (المحقق): “من المفروض مراجعة التالي لأن السياسات الحالية المعمول بها لا تتناسب والظرف الحالي”.
وأشار إلى ضرورة مراجعة الرسوم والجبايات التي زادت بعد الحرب ولم تكن موجودة من قبل”.
رسوم صادر
وأبان الحاجة إلى التعامل مع حصائل الصادر بصورة مرنة ومبتكرة حيث يدفع المصدر عند التصدير كل ما يليه من رسوم وضرائب أرباح أعمال وحتى رسوم جديدة يمكن أن تسمي (رسوم صادر) بشرط أن لا يُسأل عن إرجاع الحصيلة إذا رغب في عدم إرجاعها، لأن الدولة استوفت كل ما يليها من رسوم مقدماً”.
وأضاف “من المفترض والمعلوم سلفا أن المصدر سيرجع أمواله مرة أخرى لتجهيز صادرات أخرى، وهذه ميزة السياسة لمعالجة أي تهرب من إرجاع الحصائل وخصوصاً أن سعر الدولار بين البنك والسوق الموازي يتسع كل يوم”.
وتابع “كبديل لعدم المطالبة بإرجاع الحصائل، يمكن إعطاء المصدر حرية كاملة في التصرف في الحصيلة الخاصة به بأي صورة يرغب فيها بعد إرجاعها للسودان”.
ودعا الحاج إلى إعفاء أو تخفيض الرسوم من الصادرات غير التقليدية مثلا (العدسية والكبكبي وحب البطيخ والشطة، البصل، إلخ) تشجيعاً لتصديرها والدخول في أسواق جديدة “.
وأقر الحاج بأن إرجاع حصيلة الصادر يواجه عدداً من المشكلات بعضها متعلق بالمصارف ووضعها الراهن فضلاً عن أن إرجاع الحصيلة التي يطالب بها البنك المركزي يلزم المصدر ببيعها إلى البنك أو إلى مستورد بالسعر الرسمي في ظل الفارق الكبير بين السعر في السوق الموازي والسعر الرسمي الذي يصل إلى 300 جنيه.
وعن وضع الاستيراد الراهن أكد الحاج أن الوضع في حالة إحجام من المستوردين عن الاستيراد الأمر الذي يصعب معه أن يستطيع المصدر أن يجد مستورد ليبيع الحصيلة.
وقال إن الدولة ليس من حقها أن تلزم المصدر ببيع حصيلة الصادر لجهة أن الأموال هي ملك للمصدر.
وأضاف الحاج أن على الحكومة فقط أن تفرض ضرائب ورسوم لتحصيلها من المصدر أما عائداته من حقه هو وله حرية التصرف بها
وانتقد أن يقوم البنك المركزي بإصدار قائمة لحظر شركات تضم أكبر الشركات العاملة بالأسواق السودانية.
وشدد على ضرورة مراجعة سياسات صادر الذهب لأنه يمثل أكبر الصادرات قيمة حتى الآن مع أهمية إزالة كل العوائق مثل توفير الوقود لحصاد الموسم الشتوي والتحضير الجيد للموسم الصيفي القادم لأن معظم الصادرات التقليدية تزرع فيه.
خطة استيراد وتصدير
وبدوره، يقول الخبير الاقتصادي، د. هيثم محمد فتحي إن الاقتصاد السوداني الآن يحتاج لخفض معدلات الاستهلاك، والتي تتمثل في برامج تقشف استهلاكي على كل المستويات.
وأوضح أن خفض نسبة الواردات وزيادة معدلات الادخار، وتشجيع المنتجات المحلية لزيادة الإنتاج المحلي.
ودعا فتحي في حديثه لـ(المحقق) إلى إعادة النظر في خطة التصدير والاستيراد لتوفير النقد الأجنبي، مع العمل على إحلال المنتجات المحلية بديلاً للمستوردة، وتخفيض الاستثمارات مع تأجيل تنفيذ المشروعات التنموية طويلة الأجل التي ليس لها مردود في العام نفسه، أو لا علاقة لها بالمعركة، وتخفيض في أنواع الإنفاق المختلف بالمصالح الحكومية والقطاع العام.
ونوه أن السودان يعاني ومنذ الانفصال من آثار اقتصادية شديدة الصعوبة، تسببت فيها أزمات متوالية منذ عام 2011، وهو ما يظهر حالياً في ارتفاع سعر الدولار والذهب لمعدلات غير مسبوقة، وانخفاض الاحتياطي النقدي الأجنبي، بجانب الحرب الحالية نتيجة تمرد مليشيا الدعم السريع وما فعلته في تدمير ممنهج للبني التحتية وهو ما يستلزم تطبيق سياسة إقتصادية تتضافر فيها كل الجهود الحكومية والشعبية لحين العبور من تلك المرحلة الحرجة”.
ولفت إلى أن “للحرب تكلفة عالية جداً على اقتصاد السودان وعلى المجتمع السوداني، وتشكل تحدياً كبيراً وتترك آثاراً مدمرة على المستوى الإقتصادي والاجتماعي (والسياسي)، وآثارها تستمر لفترة طويلة حتى بعد انتهاء النزاع المسلح”.
وقال الخبير الاقتصادي، إن عمليات إعادة الإعمار والبناء ستستغرق وقتاً طويلاً، واستعادة الثقة وتعزيز الاستثمار وتحقيق التنمية المستدامة سيستغرق وقتاً أطول بلا شك.
وعن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لجلب الإيرادات وتغذية خزانة النقد الأجنبي أوضح فتحي إنها إجراءات لتحقيق عائدات للخزانة العامة إلا أنه أكد على أن الدولة ستكون أمام حالة تضخم جديدة،
وأشار إلى أن الغاية هي تحقيق عائدات وإعادة استثمارها بما يمكن أن يساهم ذلك بتخفيف حالة التضخم.
وقال “هناك تجنيب لحصائل الصادر بالخارج وعدم استردادها عبر القنوات الرسمية للداخل، وحرمان الدولة من عائدات ثرواتها القومية بما تسببت هذه الفوضى في هذا التدهور الاقتصادي الذي يشهده السودان”.
وتابع “تجنيب عائدات الصادر بالخارج هي عمل ممنهج ومتمدد، لتبدأ معاناة حقيقية في توفير النقد الأجنبي لتغطية احتياجات الدولة من السلع الاستراتيجية والضرورية”.
وأكد أن الإجراءات الأخيرة لتوريد حصائل الصادر للبنك المركزي ومعاقبة الشركات غير الملتزمة يمكن لها أن تساهم في ارتفاع احتياطي النقد الأجنبي في بنك السودان وتنظيم عمليات الصادرات السودانية.
المحقق – نازك شمام