يعد الفول المدمس من أحب الأطعمة إلى المصريين، وهو بقيمته من البروتين يقوم عند الفقراء مقام اللحم عند الأثرياء. وللفول أنواعه الكثيرة، لكن المدمس يفوق سائر الأنواع شهرة وشعبية، وقد أورد العلامة أحمد أمين فى “قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية” طريقة صنع الفول المدمس الذى يلقى رواجًا كبيرًا فى ليالى الشتاء وشهر رمضان المبارك، حيث يقول: “وطريقة صنعه أن يوضع الفول الناشف بعد تنقيته من الحصى فى قدرة، ويوضع معه الماء بمقدار مناسب، ويترك على نار هادئة طوال الليل تقريبًا، ومن يشتريه يضع عليه الزيت والليمون أو المسلي والزبد”. وقد بلغ من حب المصريين للفول بأن ضربوا به الأمثال، فيقول: “هو كالفول البايت من غير ملح ولا سمن”، ومن أمثالهم “كل فولة مسوسة لها كيال أعور”، و”كل فولة لها كيالها”؛ للدلالة على على أن الشيء مهما بلغ من القبح فله من يطلبه، ويقول أيضا “فهمت الفولة” للدلالة على كشف سر معين. وقد جرت العادة أن يتخذه المصريون فطورًا لهم فى كل صباح، أما فى رمضان، فيحل أحيانًا على مائدة الإفطار، لكن الكثير من المصريين يأكلونه عند السحور؛ لأنه يمد الصائم بالقوة ويدفع عنه الجوع.
ويقول العلامة على الجندى فى موسوعته “قُرة العين فى رمضان والعيدين”، إن الفول المدمس من الأطعمة الأساسية، ويشترك فى أكله الفقراء والأغنياء؛ لرخص ثمنه، وقيمته الغذائية الكبيرة، حتى أن العامة يسمونه “مسمار الضلعة”؛ به يصلب المصريون طولهم طوال اليوم.
أما باعة الفول المدمس، فنالوا شهرة واسعة، حتى قيلت فيهم القصائد، فهذا الفقيه بدر الدين بن الصاحب (ت788هـ/1387م) يقول على لسان ابن بائع الفول:أنا ابن الذى فى الليل تسطع ناره .. كثير رماد القدر العبء يُحمل
يدور بأقداح العوافى على الورى .. ويصبح بالخير الكثير يفول
ويقول بعض أبناء الفوالين مفتخرًا ببضاعة أبيه
أنا ابن الذى لا ينزل الدهر قدره .. وإن نزلت يوما فسوف تعود
ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره .. فمنهم قيام حوله ويعود
ومن الحكايات الطريفة ما ورد أن إمام أهل مصر، الليث بن سعد(ت175هـ/791م) كان من الأثرياء، حتى أن ولاية الجيزة كانت إقطاعًا له، وكانت له فى النيل ثلاث سفن، واحدة له ولخواصه، وثانية لأهل بيته، وثالثة لخدمه وحشمه، فشاهد يومًا بعض الناس خادمًا له، يحمل صفحة من الفول المدمس، فقال متعجبًا: أيأكل خدم الليث الفول مع هذا الثورة الطائلة والنعيم المقيم؟!.
ضحك الغلام، وقال:”كلا والله، إنا نأمل اللحم طلبها وسواء وقديدا، وصنوف الأطعمة، وأفانين الحلوى، وهذا الفول للإمام -أطال عمره وأدام نعمته-“، وتكشف هذه القصة زهد الإمام الليث وعشقه الفول المدمس.
ويعد الإمام الليث بن سعد بن عبدالرحمن الأصبهانى الأصل، المصري المولد،هو إمام أهل مصر، ولد بقرقشندة بمحافظة القليوبية حاليا عام ٩٤هـ، وعليه دارت الفتوى لأهل مصر فى زمانه، وقال القائل حين مات:
بوابة الأهرام