بدأت تتردد في إسرائيل أصوات في مراجعة للنفس، من جدوى استمرارها في حرب غزة، حتى ولو كانت أصوات من مؤيدين لتلك الحرب، لكن أصواتهم كانت تعبّر عما بدأوا يتفقون عليه من أن الدولة أقحمت نفسها في حرب ستخسرها.
القناة-12 العبرية أذاعت أن المخابرات الإسرائيلية قالت إن «حماس» وغيرها من جماعات المقاومة الفلسطينية، ستنجو من حرب إسرائيل ضدها، وسوف تستمر بعدها في حرب عصابات جديدة، وعندئذ لن يكون هناك انتصار مطلق للجيش الإسرائيلي.
صحف إسرائيل توالي ذكر الخسائر الاقتصادية التي مُنيت بها الدولة، والتي كبدت الاقتصاد حتى الآن مليارات الدولارات، وأضعفت مالية الدولة. في الوقت الذي قدّر فيه الجنرال هاليفي رئيس أركان حرب الجيش أنه لا يوجد توقع لنهاية قريبة للحرب، وأنها ستستمر لشهور عدة.
ثم جاءت النظرة السوداوية المتشائمة من الجنرال إسحق أوريك، وهو وإن كان من البداية من مؤيدي الحرب على غزة، إلا أنه الآن يحذّر مما هو قادم. ويقول إن الجيش نفسه الآن في موقف أشد سوءاً مما كان عليه لحظة اقتحامه غزة.
وراح يشخّص الموقف بشكل تفصيلي بقوله، إن الجيش لم يكن مستعداً لهذه الحرب، ولم يكن مجهزاً لها، كما لم تكن لديه أي خطط واضحة للحرب، وفي اللحظة التي فرضت عليه فيها خوض الحرب بدأ بسرعة شديدة يجهز لخطة لحرب اتسمت بالعجلة لاقتحام غزة، ما سبب له خسائر فادحة. لكنه راح يضرب بعنف قطاع غزة، والمتوقع أن يطول أمد وجوده هناك من دون نتيجة.
ويقول الجنرال أوريك إنه أبلغ رئيس الوزراء نتنياهو، برأيه، وأنهم كانوا يحتاجون لخطة تختلف عن الخطة التي جرى تنفيذها، والتي سببت لإسرائيل خسائر فادحة، وأنه أوصى نتنياهو باتباع طريقة لإضعاف حماس، بدلاً من اقتحام غزة، بأن نترك للطائرات قصف أهداف محددة، وأن يخفض بقدر الإمكان من قرارات منع الماء والطعام والكهرباء عنهم، وعدم قتل المدنيين.
ثم قال إن نتنياهو كان يميل في البداية للموافقة على رأيه، بعدم بدء العملية البرية للجيش، لفترة يتاح فيها للجيش فرصة للتدريب وتجهيز نفسه لدور أفضل مما جرى.
لكن الجيش سرعان ما اقتحم غزة، وحاصرها من جميع الاتجاهات، للعمل على خنقها، لكن لسوء الحظ بدأت تظهر خلال أسابيع أخطاء العملية العسكرية، ما ألحق بالجيش أضراراً بالغة.
ثم يفضح الجنرال أوريك اقتحام جيش إسرائيل مستشفى الشفاء، بادعاء وجود أنفاق لحماس تحت أرض المستشفى، ما ثبت عدم صحته. ولم يكن هناك سبب يبرر اقتحامه مع غيره من المستشفيات. ما جعل العالم يقف ضد إسرائيل بسبب قصف المستشفيات، ما سبب تصعيداً في المواقف من الفلسطينيين ضد سلوك إسرائيل وصل إلى الضفة الغربية.
يقول الجنرال أوريك إن هذه السياسة زادت من كثافة الضغوط الدولية التي تنادى بوقف إطلاق النار، وخلقت لإسرائيل موقفاً قد يتيح لها كسب معركة، لكن مع خسارتها الحرب، فإن الجيش يجد نفسه في موقف أشد سوءاً مما كان عليه لحظة اقتحامه غزة.
وشهدنا دولاً بدأت تسحب سفراءها من إسرائيل، وبعضها يلغي اتفاقات معها، وفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، وصارت هناك تخوفات من أن يؤدي استمرار حرب غزة إلى حرب إقليمية أوسع مدى.
ويضيف إلى حصره للنتائج العسكرية، حالة الانقسام والتفكك المجتمعي بين الإسرائيليين، والذي ظهر بعد أحداث 7 أكتوبر، ضمن مظاهر أخرى من الشعور بانعدام الأمن.
وإذا لم تستطع الدولة المحافظة على التماسك والشعور بالأمن، فإن كل شيء سيخفت الشعور به، بخاصة ما يتعلق بالأمن. ولكل هذه الأسباب فإنه لا يوجد حل سحري لهذه الحرب، وهو ما قاله الجنرال أوريك للصحفيين.
وفي أعقاب قوله هذا، استبعد نتنياهو نهاية قريبة للحرب، وقال إن نهاية الحرب ليست وشيكة، واتفق معه الجنرال هاليفي رئيس أركان حرب الجيش، بما أعلنه في مؤتمر صحفي من أن الحرب ستستمر شهوراً عدة.
وفي الاتجاه نفسه، ينشر معهد القدس للاستراتيجية والأمن تقريراً تحت عنوان: «هل تستطيع إسرائيل ضمان أمنها بعد حرب غزة؟»، وهو تساؤل يعبّر عن فقدان اليقين بحرب تخرج منها إسرائيل، وقد حققت ما أرادته من البداية.
كل تلك التوقعات عن المأزق الذي وضعت إسرائيل نفسها فيه، حتى وإن لم يذكر أصحابها صراحة السبب الذي سيجعلها تخسر الحرب، إلا أنهم تجنبوا التعرض للسبب الأساسي لتلك النتيجة.. وهو أن إسرائيل تحارب شعباً هي التي احتلت أرضه.
وإن جميع التجارب التاريخية للشعوب التي وجدت نفسها في مثل هذا الموقف، تؤكد أنه لا يوجد شعب في العالم تعرّض لاحتلال أرضه، إلا وتكون قد حانت له لحظة يكون قد جهز فيها نفسه وقدراته، للانتفاضة ضد هذا الاحتلال.
مشكلة إسرائيل أنها تنكر تجارب وأحكام التاريخ، وتغلق عقلها على تصورات من صنع أفكارها، وأنها مهما استخدمت ما لديها من قوة، فإن القاعدة الأزلية لمقاومة احتلالها لأرض غيرها، أنه لا بدّ أن يأتي يوم تنطلق فيه قدرات هذا الشعب على التصدي لها.
عاطف الغمري – صحيفة الخليج