(1)
النقاش الذي أثاره د.الوليد مادبو من خلال تسجيلاته ومقالاته لا يمكن النظر إليه بإعتباره مجرد وجهة نظر ، أو خاطرة ، إنه فى رأى (تحول مهم فى مسار الحرب) ، وبالأحرى تداعياتها ومآلاتها ومستقبل مليشيا الدعم السريع وحاضنتها الإجتماعية وليس بالضرورة الحاضر أو ميدان المعركة..
وقد أنشغل الناس عن ذلك ، ونسوا توقيت الحديث ، و شخصية المتحدث ، و إستدلالاته ، كلها موظفة لأقصى درجة ممكنة للانتقال من معركة (تقودها قوة متمردة على الدولة) إلى (مناجزة قبيلة ضد مجتمع قبلي آخر) ، ومن شعارات (التحول الديمقراطى والمسار السياسي وحق المواطن ) إلى (غبينة اجتماعية ومناطقية) ، وذلك هو الموقف.. ولتحقيق هدفين (توفير ملاذ أخير للمليشيا) ، و(دخول القبيلة فى مناورات) المفاوضات بتوفير ضمانات أو توفير سند مع تراجع الإستنفار من بقية المجموعات القبلية ، والأمر برمته تم من خلال آليات تحشيد كثيرة منها التواصل مع شيخ المحاميد موسي هلال ومنها خطابات اخرى على ذات نسق د.وليد بعاطفية اكثر..
وفى رأى إن الأمر هو وضع (سيناريو جديد) وظهير جديد لحماية وإسناد ما تبقى من الدعم السريع واللجوء إلى (القبيلة).. وهذا هو الأمر الجديد ..
فحين خطط حميدتي للحرب وبدأ فى التدريب والتسليح والاعداد كان نائبا لرئيس مجلس السيادة الانتقالي.. وليس عمدة من الرزيقات..
وحظى بحفاوة قوى سياسية ممثلة فى قوى الحرية والتغيير قحت ساندته وباركت خطواته وبعضهم أقسم بليل ليصرمنها دون حياء..
ومباركة دولية ممثلة فى فولكر بعد أن ألتقاه فى الجنينة ، وبعد مسرحية دستور تسييرية المحامين حين أيده حميدتى (مع اننا لم نقرأه لكننا مؤيدنه)..
وتمدد لشراء قيادات اهلية واجتماعية بالإضافة للحاضنة السياسية..
وحتى حين اندلعت الحرب فى 15 ابريل 2023م ، لم تكن القبيلة حاضرة ، بل هناك مرتزقة من كل دول العالم ، وإن استدعت بعض التحليلات دولة (العطاوة) وهو مشروع أكبر من قبيلة الرزيقات..
فلماذا تم الزج بالقبيلة الآن؟ لإنها ببساطة الملاذ الأخير المتبقي.. وهذا ما ينبغي التركيز عليه..
(2)
لم يكن ناظر الرزيقات ممسكا بفرسه على باب القصر الجمهورى وبيده بيان لإذاعته معلنا عن دولة الرزيقات صبيحة 15 ابريل 2023م ، بل ربما لم يكن يعلم بالتدابير الحاسمة ..
ولم يكن ناظر الرزيقات مع عبدالرحيم دقلو تلك الامسية يضع اللمسات الأخيرة ، وإنما كانت هناك قوى سياسية اخرى هى الآن خارج دائرة التأثير ولم يعد هناك وسيلة لقوة الإحتياط ولذلك تم الزج بالقبيلة.. فالقبيلة تم الزج بها فى معركة ليست لها.. وإن كان بعض ابناءها داعمين للمليشيا واستفادوا منها وربطوا مستقبلهم بها..
وهذا تطور مهم ..
وهنا تبرز قضيتان لابد من إستصحابهما:
– إنها تداعيات الحرب وليست مسبباتها ، وهى مخاوف مما بعد الحرب ، حيث هواجس الانتقام.. وهذا حديث على قبحه ، فإنه يثير الهواجس والمخاوف فى المجتمعات ويضيف للحرب بعدا آخرا..
– وانها جزء من حملة التعبئة والنفير والفزع ، حيث استنزفت الحرب كل القدرات وتراجعت حماسة القبائل الاخري ولم يعد من مسار سوى هذا ..
وبهذا :
– تم إفراغ الحرب من ظلالها السياسية ودعايات الانتقال الديمقراطي وحصرها فى اطماع شخصية ، حاولت توظيف مجتمع قبلي لهذه الغاية.. وحميدتى الذي كان على ابواب القصر الجمهورى مطالبا البرهان بالتسليم وبنبرة تحدى قائلا (هم الآن محاصرين) وليس عليهم إلا الإستسلام ، فإنه اليوم يبحث عن مظلة تأمين (القبيلة)..
– وهو إعادة ترتيب أجندة وشخوص الحل من قوى سياسية إلى قوى إجتماعية وقبلية ، ولهذا آليات مختلفة..
(3)
هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم ، إنها عبر تاريخية ، تبدأ بمشاريع وشعارات كبيرة ثم تتحول إلى محاصصات صغيرة ، وهذا مأزق قديم فى التاريخ الإنساني وقد اسهب إبن خلدون فى ذلك..
ولذلك ينبغي التعامل مع هذه الهواجس بجدية أكبر ، وتوظيف الأمر لاقصى درجاته ، ولا أظن من المناسب مسايرة د.وليد فى توجهاته ، بل إطفاء الحريق وتغيير مسار القضية ، والتواصل مباشرة مع أطراف فاعلة فى قبيلة الرزيقات واى مكونات اخرى ..
وقد يكون التواصل محمودا مع الشيخ / محمود مادبو ناظر عموم الرزيقات ، وفى ظنى أن التسجيلات المنسوبة له غير حقيقية ومفبركة وجزء من حملة الفزع ، ويمكن التواصل مع الشيخ /
موسي هلال زعيم المحاميد ، ومع اى اطراف اخرى ، فالدولة مسؤولة من كل النسيج الإجتماعى ، و مهما بدر من أحداث فأن الحوار أكثر فائدة من صمت تتحمله الظنون والشكوك..
(4)
لقد كشفت هذه الحادثة عن هشاشة البناء المجتمعي والولاء الوطني وتنامي ظاهرة العصبية ، فحديث قصير وفطير قادر عن إحداث كل هذه البلبلة ، مع انه يفتقر للمرتكزات الفكرية وللبعد الاخلاقي ، فلم تتحرك النخب وأكثر من 800 ألف يهجرون من بيوتهم فى الجنينة ، ولم يرجف لهم جفن والاحياء يدفنون فى اردمتا ، أكثر من 5 ألف فى ليلة واحدة (يونيو 2023م ) ، ولم تتحرك ودعاية الجنجا تهدد بإجتياح شندى والدامر ومروي وسنار ، ولم تتحرك الجنجا اتخذوا من بيوت المواطنين ثكنات عسكرية بعد أن نهبوها ، ونقلوها إلى ديارهم ، ولم تتحرك وحتى يوم امس غارات الجنجا تغتال الابرياء بدم بارد وتلذذ فى مناطق هبيلا وقرى التنقل وما جاورها ؟
الرزيقات قبيلة مهمة ، وتاريخها غير منكور ، وما حدث لم تكن القبيلة طرفا فيه ، إنها تجاذبات سياسية وحالة استقطاب ارادت ان تتدثر بالبعد الأهلى ، فأكشفوا الأغطية ، فلا غبينة ولا ضغينة..
ولا أرى عيبا ، أن يتحدث رئيس مجلس السيادة الانتقالي عن الرزيقات وتاريخهم وان لا احد يستهدفهم ..
واقترح ان تؤكد قيادات اهلية من نهر النيل والشمالية ، على قوة النسيج الإجتماعى..
حفظ الله البلاد والعباد..
د. ابراهيم الصديق على
24 فبراير 2024م