ما أن أنهيت ثلاثية الكاتبة أحلام مستغانمي حتى انبرى إلى خاطري صديقي (طارق)…
وطارق بقي ماثلا في وجداني منذ سني الدراسة الجامعية، بل الحق أقول إنه ظل كذلك إلى يومي هذا…
يلوح لي دوما بقامته المديدة ووجهه البرئ كلما تذكرت أبيات الشعر التي يقول فيها شاعرها:
وأحبب إذا أحببت حباً مقارباً فإنك لا تدري متى أنت نازعُ
وأبْغِضْ إذا أَبْغَضْتَ بغضاً مقارباً فإنك لا تدري متى أنت راجعُ
وكن معدناً للخير واصفح عن الأذى فإنك راءٍ ما عملت وسامعُ
ولا تلبث الذاكرة الاّ وترفق بالابيات مقولة للحسن البصري رحمه الله حفظتها منذ بواكير صباي من فيه جدي رحمه الله:
(أحبوا هوناً وأبغضوا هوناً فقد أفرط قوم في حب قوم فهلكوا وأفرط قوم في بغض قوم فهلكوا).
صديقي طارق هذا كم كان مثالا للتصالح مع ذاته بيننا أيام الدراسة الجامعية…
كانت مباني الجامعة حينها تربض على هضبة أسمها (الحوض) داخل حدود المنطقة الحرام من مكة المكرمة، وقد أضحت الآن كلية البنات بعد تحويل مقر جامعة أم القرى الى منطقة الحِل (أي خارج المنطقة الحرام من مكة المكرمة)، وذلك بغرض التوسعة، وغاية أخرى وهي تيسير الاستعانة بالأساتذة من غير المسلمين لتعذر دخولهم الى المنطقة الحرام حيث كان المقر السابق…
أيامها، كنا نقيم في عمائر سكنية مستأجرة من قبل الجامعة كسُكني للطلاب العزّاب، لاتبعد سوى أمتار قليلة عن حرم الجامعة وكلياتها…
طارق كان أسبقنا إلى النهوض والتهيئة لصلاة الفجر قبيل الأذان الذي يُبتدرُ من الحرم المكي لتتبعه العديد من مآذن مكة المكرمة…
اعتدنا -وكان عدادنا أربع من السودانيين- بأن يتقدمنا طارق فنسلك طريقاَ يودي بنا إلى طرف نفق العزيزية الذي يشق سلسلة من جبال مكة لينتهي بنا الى المسجد الحرام السابح في لُجَّةٍ من الأضواء، تزداد تكاثفا بانعكاسها على رخام الحرم صحنا وحوائط ومآذن، الى أن تكتنف الدُنا الخيوط البيض من الفجر، نكون حينها قد فرغنا من الصلاة، وشرعنا في العودة أدراجنا راجلين الى سكنانا -عدا طارق-من خلال ذات النفق الطويل…
طارق اعتاد أن يبقى خلف مقام ابراهيم في ذات المكان الذي اعتدنا الصلاة فيه من بعد الطواف، ايفاء لعهد قطعه مع نفسه بأن يكمل جزأه اليومي من كتاب الله، ليعود مع شروق الشمس ويلتئم جمعنا حول مائدة شاي الصباح المصحوب بافطار لم نعتد عليه في ذاك الصباح الباكر الاّ بعد أشهر ليست بالقليلة من قدومنا إلى تلك الديار المقدسة.
(الأشياء الحميمة نكتبها ولا نقولها فالكتابة اعتراف صـــــــامت).
صدقت ياأحلام…
فالكتابة وصمتها لا غرو أدعى لان (تعصر) من القلب جُلّ رحيق المشاعر الحميمة…
وما أندى الحميمية عندما تكتنف أحاسيس الأصدقاء تجاه بعضهم البعض…
طارق كان أُمّة فينا!
كم كان مرهفا…
وكم كان يؤثر الآخرين على نفسه ولو كان به خصاصة!…
ق يجد المرء صديقا يحب القراءة -ذاك أمر لا اخاله بالنادر- ولكن أن تجد صديقا لا تمر عليه دقيقة من وقت فراغه الاّ وبيده كتاب، فذاك لعمري ما يستوقف المرء!
ألا رعى الله أياما وسنوات كنت في رفقته بين جنبات مكتبة مكة المكرمة الكائنة فوق البيت الذي ولد فيه الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، وان تعذر علينا ايجاد الكتاب الذي نروم، لا نملك الاّ الذهاب الى مكتبة ابن باز رحمه الله، يتناول طارق الكتاب ويتحسس الأحرف بأصابع يديه، فسألته يوما فقال:
-الحروف عندما تتلمسها باناملك فتحس بها بارزة فذاك يعني ان الكتاب مطبوع وليس مصوَّر، أما اذا لم تحس بها بارزة، فالكتاب مصوّر، وهناك احتمال كبير أن تجد فيه صفحات كاملة أو أجزاء منها ممسوحة!
كم كان يحب الفصحى، الى الدرجة التي يمازحنا بها…
قال زميلي يوسف وهو يخاطب رفيقا آخر يوما:
ياخي ضربناهو ضرب الفَيَلة (بفتح الفاء والياء كما اعتدت وغيري بأن نقول)، فقال طارق باسما:
يا أخي ضرب الفِيَلة (بكسر الفاء) وليس الفَيَلة.
وما ان انسرب العام الأول منذ التحاقنا بالجامعة الاّ وفوجئنا بأن طارق قد حفظ القرآن كاملا…
أما دواوين الشعر وأقوال الحكماء، فكم كنا نستمتع خلال جلساتنا بقدرته الفائقة على حفظ البديع منها والجميل…
ولعلي اقول:
برغم سيادة (النهج الوهابي) للساحة الفكرية والثقافية في عالمنا الجامعي في تلك الجامعة، الاّ أن طارق كان يخالف الجميع بفكر لعله أقرب الى طرح الأخوان المسلمين منه الى الوهابية، فعندما نذهب الى فُرُشنا اعتاد طارق بأن يستمع الى أم كلثوم من خلال مذياع صغير،
وقد علمنا منه بوجود إذاعة مصرية متخصصة في بث أغاني أم كلثوم فقط…
وكان طارق -ايضا- يهتم بأخبار الأقليات المسلمة على امتداد العالم بصورة دائمة، بل يصل الأمر به أن يترصد القادمين من مسلمي الروهينجا وكذلك مسلمي الصين والبوسنة والهرسك والشيشان في الحرم المكي ليسألهم عن حالهم ومآلهم، ولا ينسى بأن يتحصل منهم على أرقام هواتفهم وأماكن سكناهم قبل أن يودعهم…
أما القضية الفلسطينية والأقصى، فقد كانت وكان قضيته المحورية…
قال لي يوما:
أسأل الله لي ياعادل أن يرزقني الشهادة بجوار المسجد الأقصى، ثم أردف تاليا لهذه الآية الكريمة:
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾
ورفع رأسه بعد أن كان مطرقا وقال:
-بالله عليك ياعادل شوف صيغة (الذي باركنا حوله دي)؟!
…
ومضت الأيام والسنون…
الى أن التحق بالجامعة زميل فلسطيني اسمه سعدالدين، عندما التقاني سعدالدين وكنا ثلاثة طارق وسوداني آخر إسمه عزالدين وشخصي فاجأنا سعد هذا بإنشاده لقصيدة لشاعرنا الجميل ادريس جماع!
قصيدة أجزم بأنني لم أسمع بها من قبل…
أنشد سعدالدين قائلا:
قلوب في جوانبها ضرام
يفوق النار وقدا وإندلاعا
يظن السيف يورثنا انصياعا
فلا والله لن يجد انصياعا
ولا يوهن عزائمنا ولكن
يزيد عزيمة الحر اندفاعا
سنأخذ حقنا مهما تعالوا
وإن نصبوا المدافع والقلاعا
وإن هم كتموه فليس يخفى
وإن ضيعوه فلن يضاعا
طغى فأعد للأحرار سجنا
وصير أرضنا سجنا مشاعا
هما سجنان يتفقان معنى
ويختلفان ضيقا واتساعا
وعندما رأى سعدالدين استغرابنا قال:
صدقوني كل أطفال غزة يحفظون هذه الأبيات!
يومها أقسم لي طارق بأنه سيحفظ كل أشعار جمّاع، وقد كان!
وتفاجأتُ به -أي طارق- وقد كان الحديث عن شعراء عرب خلال احدى الأمسيات الثقافية في نادي مكة الثقافي يتحدث عن ادريس جماع وينشد أشعاره -ارتجالا- الى الدرجة التي دفعت المشرف على المنصة وهو أحد أساتذة اللغة العربية في الجامعة من السعوديين بأن يطلب من طارق الالتحاق بمن يجلسون على منصة الحديث، وقد كان طارق يتحدث من خلال مداخلة صغيرة، ثم طلب مدير المنصة من طارق مواصلة الحديث عن الشعر في السودان فأجاد وأبدع أيما ابداع، وقد كان الحضور مابين مستنكف لشاعرية السودانيين، وبين جاهل بذلك، فخلص طارق الى أن الشعراء السودانيين هم أشعر العرب، ولم ينس كذلك أن يقول بأن مجمع اللغة العربية الذي انعقد في دمشق يوما قد خلص الى أن (أكثر اللهجات العربية ثراء بالمفردات الفصيحة) هي اليمنية والسودانية!
فوقف أحد الحضور من العرب وقال:
كيف تقول ذلك والكل يعلم بأن الناطقين بغير العربية في السودان يشكلون أكثر من 70% من سكانه؟!
فكانت اجابته:
-ياعزيزي ليست عروبة الدم هي الأصل للإبداع والريادة، إنما عروبة اللسان، ودونك العديد من الأسماء التي أضافت الكثير للعروبة ثقافة وأدبا وشعرا بل وفقها وفتوحات عسكرية، فما كان من السائل الاّ أن جلس.
تقول أحلام مستغانمي عن بطل قصتها:
(هذا الرجل يتقن الكلام إلى درجة يمكنه معها أن يمر بمحاذاة كل الأسئلة دون أن يعطيك جواباً أو هو يعطيك جواباً عن سؤال لم تتوقع أن يجيبك عنه اليوم بالذات وأن تطرح عليه سؤالاً آخر ، إنه رجل اختصر كلمات اللغة بين حتماً ودوماً وقطعاً وطبعاً)
لعل طارق كان ذات الرجل…
لكنه في سوح وفضاءات غير تلك التي (قصرت) مستغانمي روايتها عليه!
وجاء يوم مشهود!…
يومها، كنا تطوف حول الكعبة قبيل صلاة الفجر وبجانبي طارق، فإذا بي أجد تدافعا بالجوار، نظرت فإذا بشخص مُحْرِم يشبه نميري رحمه الله!
أمعنت النظر، فاذا به الرئيس جعفر محمد نميري…
نبهت طارق الذي كان يبدو عليه النعاس فانتبه وجعل يسرع الخطى إلى أن وجد فرصة للسير بجوار نميري، وخلال الأشواط الأخيرة من الطواف وجدته يتحدث الى نميري بعد أن استأذن أحد الحراس المرافقين.
وبعد أدائنا للصلاة وأثناء عودتنا الى السكن سألته عن فحوى حديثه لنميري فقال:
سبحان الله ياعادل، ليلة أمس رأيت رؤيا بأنني التقيت بنميري فسألني عن حالنا وأجبته بأننا بخير، ثم طلب مني أن أشير عليه بعمل يريده خالصا لوجه الله لنفع المسلمين، فإذا بي أقترح عليه بأن يسهم في تشجير عرفات ومنى بشتول من النيم يرسلها من السودان!
وكنت وطارق نعمل خلال عطلة الحج في (معسكر ابحاث الحج) وهي جهة توظف الطلبة الدارسين في جامعات المملكة وتطلب منهم الكتابة أحوال الحجيج في اماكن تواجدهم لدى المطوفين وذلك لتقييم حالهم خلال وجودهم توطئة للإفادة من تلك التقارير من وزارة الحج السعودية لتحسين مستوى الخدمة عاما بعد عام.
ما إن أتى المساء حتى زارنا في سكن الجامعة موفدٌ من الرئيس نميري يسأل عن طارق الذي طلب مني مرافقته إلى جدة التي عاد إليها الرئيس بعد أدائه للعمرة فاستقللنا ذات السيارة (الليموزين) التي أتى بها الموفد ولعل أسمه محمدعلي، وصلنا جدة والتقينا بالرئيس نميري الذي أعاد سؤال طارق عن حلمه (عن النيم) وكم كان الرئيس متحمسا لذلك واعلمنا بالتزامه بذلك عند عودته إلى السودان،
واوصل طارق الخبر إلى رئيس مركز أبحاث الحج في مكة المكرمة فرحب بالأمر ايما ترحيب…
وبدأت فسائل النيم تصل إلى جدة وتستلمها القنصلية السودانية، وتم اعتماد طارق مشرفا على الغرس من قبل مركز ابحاث الحج، فكنا نشرف على الغرس وبين يدينا العديد من العمال من جنسيات عديدة، فغرسنا المئات منها بل الآلاف، ومنها نيمة غرستها ثم عدت بعد سنوات عديدة لأجدها ظليلة، فكتبت في شأنها هذه الأبيات:
(من وحي نيمة غرستها في عرفات قبل أعوام):
مُدِّيْ غُصونَكِ في دلال
وارفدي الحجاج دوما بالظِلال
وتَمَايَسِي فالأرض طُهرٌ
وكل السُّوح يَغْمُرُها الجَلال
إنَّها عَرَفاتُ ربِّي…
واليوم يَغْفِرُ ثُمَّ يَهْدِيْ كُلَّ ضَال
الناسُ إذْ سَمِعُوا النِّدَاء من الخليل،
جاؤه بالضُمُرِ النَّحِيْلَةِ أو رِجال
هتف الخليل عليه من ربي السلام
فارتجت الأرض الخلاء وكل هامات الجبال
إنه نعم الأذان…
بل إنَّه نفحً الدُّعَاءِ…
يومَ جاءَ الواد قفراً ورمال
وأناخ النوق قرب البيت زلفى
فوقها اسماعيل محمود الخلال
هانئ في حضن هاجر
إنها زوج نبي…
وهي أم لنبي…
أبشري بالخير ياااانعم المآل
ومضى الخليل
إذِ اليقينُ في ربِّ الكمال
وهو أوّاهٌ حليم
بل إنه جَمَع الحِسانَ من الخِلال
وهو لم يركع لغير الله يوما
وإذا بالنار بردا وسلاما لا اشتعال
ومضت ايام هاجر في الحرم…
نفد الطعام، ولبن الضرع زال
يارب إنّا في رجاك؛
مدّت يديها للسماء وألحّت في السؤال
واتصل البكاء من الرضيع
فانبرت لل(سعي) سبع مرات سجال
تتفحص الأنحاء طرا
فلا صوت، وحر الشمس قال
ليس في الأنحاء إنْسٌ
ومتن الواد من الزرع خال
وانبرت لله تدعو فإذا بالماء سال!!!
مَدَّتْ َأيَادِي الشُّكرِ طُرّاً
وانحنت للنبع تَحثوه الرِّمَال
أقعت (تَزُمُّ) الماءَ زَمَّا
لينأى عن السَّوَحَانِ في جوفِ التِّلال
ليتَ هاجَرَ لَمْ تَزُم…
لولا ذاك صار ال(بئر) نهراً من زُلال.
عادل عسوم
وظللنا نعمل في مركز أبحاث الحج طيلة سنوات الدراسة، والعمل في ذاك المركز لم يكن بالأمر الهين، اذ الطالب منا يفوز بحجّة مضافا اليها مبلغ مقدر من الريالات السعودية، ولأن العدد المطلوب قليل فقد كان التدافع كبيرا جدا من قبل العديد من الزملاء من السعوديين من الطلبة والمقيمين،
أما شخصي وطارق فقد شفعت لنا الاشادة الدائمة بتقاريرنا المنبنية على زياراتنا الميدانية للمشاعر وأماكن اقامة الحجاج لدى المطوّفين…
اذ كم وفقنا الله الى حلول للعديد من الاشكالات التي كانت تكتنف حراك الحجيج، والحق يقال لقد كان لطارق القدح المعلّى في ابتكار الحلول والرؤى،
فإن نسيت فلن أنسَ اشكالا لعله يصب في خانة الطُرفة الحزينة.
أُبلغنا من قبل ادارة المركز بأن بعض أهل شرق آسيا من الحجاج لديهم (قناعة) بأن المولود الذي تحبل به امه خلال وقفة عرفات يكون مباركا، لذلك كانت التوصية بأن نشارك رجال الأمن السعوديين في اخلاء أماكن السكنى من الخيام من جنسيات بعينها ف الفترة خلال أمسية الوقوف بعرفة واقناعهم بالخروج والدعاء حتى لا يسعى الأزواج منهم الى الذهاب الى الفراش وأتيان نسائهم.
فما ان تميل الشمس مؤذنة بالمغيب الاّ وترى العجب العجاب!
والمعلوم يقينا أن الحج يبطل ان أتى الرجل زوجته قبل أن يتحلل، فما بالك بأن يفعل ذلك خلال الركن الأعظم للحج وهو الوقوف بعرفات.
وقد حارت الإدارة وهي تبحث عن علاج ناجع يحفظ لأولئك حجهم ولكن دون جدوى، الاّ أن طارق كان لديه الحل والرؤية…
ف خلال اللقاء التفاكري لادارة مركز أبحاث الحج -وقد كان ذلك بُعيد انتهاء شعائر حج ذاك العام- تناول ممثل الأدارة أمر أولئك الذين مافتئوا يفعلون ما يبطل حجّهم هم وأزواجهم خلال ركن الوقوف بعرفات، وابان الرجل بأن الأمر من الخطورة بمكان لأن كل الحلول التي طُرحت وفُعّلت لم تأت بثمرة ولم تحسم الأمر، وقد سعى المركز من قبل ذلك وبالاتفاق مع حكومات تلك البلاد إلى توزيع الكثير من المطويات والكتب خلال ورش التوعية التي تقام للحجاج هناك قبل توجههم الى الاراضي المقدسة، ووصل الأمر بحكومة تلك البلاد أن تمنع حج الأزواج مع بعضيهما! لكن الأزواج لم يلبثوا أن وجدوا من المداخل والمخارج ماستطاعوا من خلالها الالتفاف على القرار والالتقاء في الحجاز لأداء المناسك معا والوصول الى عرفات حيث المولود المبروك كما يحسبون
سألت أحد رعايا تلك البلاد من الطلبة الدارسين للغة العربية للناطقين بغيرها في جامعة أم القرى فقال لي بأن الأمر مرده الى احدى النساء وهي (شيخة) مشهورة لأحدى الطرق الصوفيه هناك، تدّعي بأنها قد ولدت في عرفات فأصبح أمر صلاح المواليد الذين تحلل بهم امهاتهم في جبل عرفات من المسلّمات لدينا!
قلت لطارق ضاحكا:
لعل شاعرنا اسماعيل حسن رحمه قد علم بذلك وأنشده شعرا عندما قال في رائتعه القمر بوبا:
الصغيرون ام الجنا
ياكريم ربي تسلما
تبعد الشر من حلتا
تسلم الأم الولدتا
الفي جبل عرفات وضعتا
تسلم البطن الجابتا
دي ترباية حبوبتا
التميرة الفي سبيطتا
الصفار صابغ خضرتا
معزورة أمها كان دستا
وآ هلاكي النار شافتا
معذباني أنا ود حلتا
القمر بوبا عليك تقيل.
كانت رؤيتي وطارق لحلحة الأمر ترتكز على ثلاثة عناصر اثنان منها آنية والثالثة يشرع فيها منذ الآن وهي كالتالي:
1- تكوين جماعة من خارج المظلة السياسية والتنفيذية للدولة يقوم على عاتقها أمر التوعية وايصال المفاهيم…
2- أشراك ال(شيخة) التي كانت سببا في تداول ال(قناعة) تلك لايضاح أن أمر صلاح المولود في عرفات يتعلق ب(الولادة) فقط لا الحمل…
3-الحرص الحاق أركان الحج بالمنهج التعليمي وتكرار ذلك خلال المراحل التعليمية ما قبل الجامعية والتركيز على ركن الوقوف بعرفات باعتباره أهم ركن وبيان كل مبطلات الحج خلاله…
(للأسف لم تكن اركان الحج مفصلة كما ينبغي في منهج تلك الدول برغم أنها اسلامية)!
فما كان من مدير المركز الاّ أن ثمّن الرؤية وقام بالاتصال بالوزراء المسؤلون عن الحج في تلك الدول وأعلمنا بأن الأمر قد تم قبوله والموافقة عليه…
وبدت النتائج الموجبة تتضح منذ الحجة اللاحقة…
وبحمدالله أستطيع أن أجزم بأن أهل تلك البلاد قد نفضوا عنهم غبار ذاك المفهوم الخاطئ الذي كلف أسلافهم الكثير عندما أبطلوا حجهم (علما بأن الحج لديهم يكلف أضعاف المبالغ التي ندفعها نحن).
عبدالحق ابن احدى تلك البلاد كان طالبا يدرس في معهد اللغة العربية للناطقين بغيرها في جامعة أم القرى، توثقت العلائق بين ثلاثتنا هو وطارق وشخصي، وينحدر عبدالحق من أسرة من (الروهينجا) نزحت من أقليم أراكان المسلم في ميانمار البوذية خلال الستينات، لم أفتأ أتذكر تقاطيع وجهه ومحياه الذي تكسوه وضاءة لاتخطئها العين، ما أندى صوته عندما يتلو القرآن ليلا!
وعندما خيره الاشراف على السكن الجامعي -أستصحابا لسياسة اسكان دارسي اللغة العربية في المعهد مع الطلبة العرب-بأن يختار جنسية بعينها بيسك معهم فقد كان اختياره للسودانيين، وسألته عن ذلك فقال:
لقد علق في ذاكرتي تفسير لآية من كتاب الله ذكر فيها السودان والسودانيون بخير،
فعندما كنت صغيرا أدرس علوم القرآن الكريم في احد المعاهد فسر لنا شيخنا الآية التي تقول (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) بأن الثلة من الآخرين هم قوم من أعراب السودان يعزون هذا الدين بعد أن يضمحل، وواصل عبدالحق قائلا:
ثم افاض الشيخ عن السودان وقال، هذا البلد ينتمي إليه موسى عليه السلام، وقد كانت رحلته مع الخضر عليه السلام على نهر النيل الذي يشق ارضه، وان جبل الطور الذي التقى بجانبه موسى عليه السلام ربه يقع فيه وليس في سيناء، وأن الهجرة الأولى كانت اليه…
كانت سُكنى عبدالحق مع زميل سوداني اسمه يوسف وقد كان يقيم في غرفة تتسع لشخصين، فأصبح عبدالحق أحد أفراد مجموعتنا بل كان ألصق بي وبطارق دون الآخرين…
وبعد أشهر أنتقل عبدالحق للسكنى مع طارق بعد خلاف مع يوسف الذي لم يكن يحتمل ازعاج عبدالحق الذي كان يحرص على قيام الليل خلال الليالي التي لاتكون لديه محاضرات صباح اليوم التالي…
وتمر بنا السنوات…
وطارق باق على حاله، وقد اصطبغ بلونٍ وشكلٍ يميز شخصيته حتى لتكاد تتوقع كل ردة فعل أو تصرف له حيال ايما حدث يمكن ان يعترضه خلال حياته، فالرجل متصالح مع نفسه الى درجة الحرص على الممايزة بين الاشياء بأن اِمَّا أبيض أو أسود، دونما لون رمادي بينهما…
تقول مستغانمي:
(تلك الكلمات ما كانت لغته فحسب. بل كانت أيضا فلسفته في الحياة، حيث تحدث اﻷشياء بتسلسل قدري ثابت ,كما في دورة الكائنات،
وحيث نذهب “طوعا” إلى قدرنا، لنكرر “حتما” بذلك المقدار الهائل من الغباء أو من التذكي، ما كان ﻻ بد “قطعا” أن يحدث. ﻷنه “دوما” ومنذ اﻷزل قد حدث، معتقدين “طبعا” أنّنا نحن الذين نصنع أقدارنا!
كيف لنا أن نعرف ,وسط تلك الثنائيات المضادة في الحياة، التي تتجاذبنا بين الوﻻدة والموت..والفرح والحزن.. واﻻنتصارات والهزائم.. واﻵمال والخيبات.. والحب والكراهية.. والوفاء والخيانات.. أننا ﻻ نختار شيئا مما يصيبنا.
وأنّا في مدنا وجزرنا، وطلوعنا وخسوفنا، محكومون بتسلسل دوري للقدر. تفصلنا عن دوراته وتقلباته الكبرى، مسافة شعره.
كيف لنا أن ننجو من سطوة ذلك القانون الكوني المعقد الذي تحكم تقلباته الكبيرة، تفاصيل جد صغيرة، تعادل أصغر ما في اللغة من كلمات، كتلك الكلمات الصغرى التي يتغير بها مجرى حياة!).
لقد بقي طارق على صلة بالآتين للعمرة من الأقليات المسلمة المستضعفة في اركان هذه الارض الفسيحة، فما يمر أسبوع الاّ وله ضيوف يأتي بهم من الحرم المكي ليقضوا معه اياما في السكن الجامعي، ولعل ذلك ماجعله يتعرف الى لغات وثقافات تلك الشعوب على اختلافها واختلافهم…
وأظلني العام قبل الأخير لتخرجي من مرحلة البكالوريوس في جامعة أم القرى حيث كنت قد عزمت أمري على الزواج خلال اجازة العام الدراسي…
وأتممتُ زواجي بحمد الله ثم عدت ادراجي إلى مكة المكرمة لأنتقل إلى شقة السكنى العوائل في منطقة الملاوي التي لا تبعد كثير عن الحرم المكي الشريف، وإذا بعلاقتي بارق تفتُرُ شيئا ما، إذ كانت لقاءاتي به خلال العام التالي خَطْفَاً ان كان في الحرم او في ردهات الجامعة، وبدأت ألحظ عليه تغييرا في سمته!…
لقد ارسل لحيته بعد أن كنا نتشارك حلقها على هيئة هلال يحيط بالذقن، وقيل لي بأنه أضحى يسافر -مع آخرين- خلال العطلات إلى دول وأماكن أخرى دون بلده السودان، فذهبت اليه مرة في غرفته كي اطمئن عليه،
فاذا به يلومني على حلقي للحيتي،
ويلومني كذلك على لبسي للبنطال والقميص الذي يتزيا به الكفار!…
ذهلتُ حقا وانا أستمع لطارق، وذهلتُ أكثر عندما علمت من زميلنا بأن طارق أصبح تكفيريّا يُكَفِّرُ المجتمع باسره!
أيكون هذا هو طارق الذي أعرف؟!
طارق الذي كان يدعو الناس إلى وسطية وضيئة تنأى بهم عن الإسفاف والشطح؟!.
وجهدت كثيرا-خلال الايام والاشهر المتبقية-أملا في أن أنأى بطارق عن طريق لا يعلم سوى الله مآلاته وخواتيمه، فلم يعرني التفاتا!
تقول احلام مستغانمي:
(ثمّة أشياء لفرط ما نُريدها بإصرار وقوة
تحدثــ ..!!
حتى يبدو لنا في ما بعد كأننا خططنا لها بطريقة أو بأُخرى ..!!)…
لقد انطفأت في مُحَيّا طارق وضاءة كانت تنير الوجه منه والفؤاد والأيادي، وتلاشت عنه إبتسامة كانت صَدَقَة في وجهه للناس طُرّا!
فأضمرتُ في نفسي أمرا:
أخذت نسخة فاخرة من ديوان إدريس جماع (لحظات باقية) كنت قد أتيت به من السودان لاهديه إليه حسبانا مني بأن أشعار جَمّاع- التي أيقن بحبه لها- ستشعل فيه بعض ذؤابات الضوء وتحرك في دواخله بعض أوتار الحُسْنِ والجَمَال،
والتقيته في ردهات الجامعة فسلمتُ عليه وناولته الكتاب، فنظر إليه وقرأ العنوان ثم قال لي:
-ياعادل اني أنصحك بأن تدع هذه القشور لعل الله يهديك الى لب الحقائق ومرادات الله!…
وتبين لي ضيقه مني وتبرمه من حديثي، وما لبث الاّ أن نظر الى الساعة التي يلف بها ساعده ال(أيمن) وقال لي بأنه يود الذهاب باكرا الى الحرم ثم انطلق…
أنبأني بقية الزملاء بأن طارق أصبح يتردد على أُناس بعينهم من التكفيريين لا تكاد تجده الاّ معهم، وأضاف لي زميلي زميله عزالدين قائلا:
-طارق ياأخي عادل وصل به الأمر أنه أقسم أمامي بأنه لن يسافر الى السودان مرة أخرى، وعندما سألته قال (لأنهم كُفّار)! فقلت له هل يدخل ضمن ذلك أفراد أسرتك؟ فقال لي نعم!
فما كان مني إلا أن عدت الى بيتي والحزن على صديقي يعصف بي، وعمدت الى مراجع لي علّي أجد فيها شيئا يخفف قليلا مما أجد فوقعت يدي على كتاب يتحدث عن الخوارج يقول:
أمّا من حيث الاتّجاه -وهو التشنيع على أمير المسلمين- فقط ظهرت بوادرها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما طعن عبدالله ذو الخويصرة التميمي بقسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيها -ولبئس ما قال-: هذه قِسمة ما أُريد بها وجه الله.
وقال أيضاً، إعدل يا رسول الله، فقال الصادق الأمين: (ويلك، إن لم أعدل فمن يعدل؟) .
ثمّ قال فيه: يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وصيامكم إلى صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية… أنظر كامل القصّة في البخاري ومسلم.
وأمّا من حيث كونها فرقة لها تجمّع وعقائد وشوكة، فقد ظهر هذا بعد التحكيم الذي حدث بطلب منهم (وكانوا في جيش عليّ رضي الله عنه وأرضاه وطالبوه بالتحكيم) بين عليّ ومعاوية رضوان الله عليهم جميعاً، ثمّ قاتلهم عليّ رضي الله عنه حتّى كان قتله رحمه الله ورضي عنه على أيديهم الخبيثة.
إنتهى
لعل نية وهَمُّ الكتابة عن صديقي طارق مافتئت تَعِنُّ لي وتلحُّ عَلَيَّ منذ سنوات…
فالرجل في خاطري شخصان لا يربط بينهما رابط!
صورته الأولى التي أحسبها قد شكّلت في وجداني الكثير…
وصورة أخرى بها من الاعتام والاظلام الكثير المثير…
كم تنازعتني حواسي بين الصورتين ومافتئت تفعل…
ايجابٌ عميم يُجَمِّلُ الصورة الأولى، وسلب كثييييف يكتنف الصورة الأخرى!
ولا أدري لِمَ عندما انهيت قراءتي لرواية مستغانمي (فوضى الحواس) قد تنازعتني مشاعر متضادة!
في البدء لا أنكر بأنني قد أُخِذْتُ كثيرا بإجادة احلام مستغانمي للسياقات النثرية التي يكاد الشّعُرُ (ينبجس) من ثناياها!
وكذلك أخذتُ بقدرتها التصويرية البديعة للمشاعر الانسانية مهما خفتت نغمتها وصغرت دائرة مدها!
وأُخِذْتُ كثيرا بالدهشة التي انتابتني جراء تطابق المشاهد مع مواجد النفس ورغائبها!
لكنني أسيتُ كثيرا لأن يكون كل هذا الابداع اللغوي والمشاعري مردُّه قصة فطيرة!
فالقصة التي كتبت مستغانمي كتابها عنها فيها تمجيد للرذيلة والخيانة الزوجية، توزعت أمشاج تقييمي للرواية بين هذا وذاك،
فاذا بالفوضى -أيضا- تكتنف حواسي، واذا بي تنبري إلى خاطري (صورتا) صديقي طارق!
فكان ميلاد عنوان خيطي (فوضى حواس)، لا (فوضى الحواس)…
ف مستغانمي كتبت عن انثى يغيب عنها زوجها (الضابط) فلا تلبث الاّ الولوغ في حمأة رغائبها، فتنساق الى مخادع الرجال مُستلبة برائحة عطرهم…
وطارق يغيب عنه وجدانه فينساق الى طرح تكفيري يستلب عقله بالرغم من مشاعر المناصرة لأخوة في الدين قد ظلموا ظلما مبينا!
انه ذات السياق هنا وهناك، فهذه مشاعر وتلك مشاعر، وبين هذه وتلك تُتَبين (فوضى الحواس).
التقيت بطارق صدفة في صحن الحرم المكي قبيل صلاة عِشَاء يوم جمعة، وقد كان بيده كتاب (في ظلال القرآن) للراحل سيد قطب رحمه الله، فابتسمت في وجهه ورجوته بأن نتحدث قليلا بعيد صلاة العشاء، فما كان منه الاّ أن هزّ رأسه بايجاب -مقتضب- نائيا ببصره عن عينيّ ومتشاغلا بالكتاب في يمناه، فتناولت منه الكتاب وقلت:
-لعله كِتَابٌ جَلِيس؟!
فما كان منه الاّ أن ابتسم وأطرق برأسه (وقد كانت هذه مما كنا نقول خلال سنواتنا الأولى عندما يجد أحدنا في المكتبة كتابا ذي قيمة استصحابا لبيت المتنبي:
أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ
وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزَّمانِ كِتابُ
واذا بالمؤذن يقيم لصلاة العِشاء، وما إن فرغنا من الصلاة جلسنا خلف مقام ابراهيم نتحدث…
-بالله عليك ياطارق في زول بيلغي أصحابو بي جرة قلم زيك كدا؟!
-ياأخ عادل الأمر ليس كذلك، لي أشهر عديدة مشغول بكتاب الشهيد سيد قُطُب!
ولم يطل بنا الحديث كثيرا حيث استأذنني طارق وذهب ليدرك موعدا مسبقا…
ولم أكن قد قرأت كتاب الظلال من قبل بتمعن، لكنني بُعيد لقائي هذا بطارق عدت الى الكتاب وشرعت أقرأه،. وقّافا بين سرابات أحرفه ومتفحصا لسياقاته ومتبينا لمرادات كاتبه سيد قطب رحمه الله…
لقد تبين لي الكثييييير المثير في كتاب (في ظلال القرآن)، ومافتئ كتاب (في ظلال القرآن) في خاطري كزهرة ندية عطرة تحط عليها نحلة مشرعة شوكتها لكل الناس!
فتبعّضَت حواسي واستبدت بها الفوضى، فما ان انكَبُّ على الكتاب الاّ وأجد فيه من الأدب والعلم والسياق البديع ما يروي ظمئي ويشبع نهمي، ولكن ما ان أصل الى تفسير الآيات التي تتصل بحراك حياة المجتمع الاّ وتتبدى لي صورة الشهيد سيد قطب الناقم على أهل الحكم في مصر حينها، وذاك لعمري هو ما أطره اطرا الى الاندفاع في طريق التكفير المظلم الملطخة جنباته بالدماء!
وانقطع طارق هنا جميعا، وعلمتُ بأنه قد انتقل للسكنى خارج الحرم الجامعي، وبدأ الزملاء يتناقلون عنه أمر تكفيره للمجتمع!
والتقيته عديد مرات في صحن الحرم المكي وبيده ذات كتاب الظلال فما ان يراني الاّ وينأى عن طريقي كي لا أحادثه!
وخلال عطلةٍ لمدة شهر ابتدأت من نصف رمضان الى مابعد العيد علمت بأن طارق قد سافر للجهاد…
كنت أحسبه قد توجه الى فلسطين مجاهدا استصحابا لمحورية القضية الفلسطينية في فكره ووجدانه خلال سني صفائه وتصالحه مع ذاته زملائه، لكنني علمت بأنه قد توجه الى العراق ضمن آخرين كُثُر شاركوا في حرب الخليج الأولى خلال الثمانينات من القرن الماضي…
ومضى شهر رمضان بكامله ثم أنقضى عيدالفطر الى أن عاودَت الدراسة في الجامعة حراكها، ولم يعد طارق!…
وانصرم شهر آخر يتبعه شهران الى أن بدت بشائر عيد الأضحى تهل على الناس ولم يعد طارق!
وسألني مدير ادارة مركز أبحاث الحج عنه فأخبرته بأنني لا أعلم عنه شيئا…
فطارق بما قدّم من أفكار وحلول للعديد من الاشكالات قد أصبح من الكوادر المهمة والدائمة بين منسوبي مركز أبحاث الحج…
وأتى عيد الأضحى وقد نأيت بنفسي عن المشاركة في العمل بالمركز ذاك العام لانشغالي بمرافقة زوجي بين يدي أول حجة لها (حجة الفرض)، ولكوننا نُعَدُّ من أهل مكة فقد احرمنا من بيوتنا دون الحوجة الى الخروج الى أحد مواقيت الاحرام المعلومة خارج مكة، ولسنا مطالبين بالمبيت بمنى ايام التشريق الثلاث، فكنا نعود الى شقتنا داخل مكة ونذهب نذهب لرمي الجمار كل يوم راجلين…
ما ان أنهيت رمي جمار اليوم الثاني من ايام التشريق الاّ والتقاني زميلي عزالدين الذي فاجأني بخبر وجود طارق في مستشفى الزاهر بمكة المكرمة وقد عاد (مبتور الساعد الايمن) من حرب العراق وايران!
فانطلقنا لزيارته في المستشفى…
كم كان اللقاء مؤثرا…
لقد تغيرت سحنة طارق كثيرا، ونأت عنه وضاءة كانت تتبدى من محياه حين يلقاك!
والتقت نظراته بنا فتهلل وجهه وبدا البِشْرُ عليه فجلسنا الى جوار سريره نباسطه ونسائله…
ونظرت إلى المنضدة بجواره فاذا بالجزء الثاني من كتاب الظلال…
ما أن رآني أرمق الكتاب الاّ قال لي:
-لديّ الكثير لأناقشه معك عن هذا الكتاب ياعادل!
فقلت له لا بأس ياطارق فإني لأحرص منك على اللقيا والتواصل، اذ لست ممن ينسَ العُشرة والصداقة ياأخي، قلت ذلك واتبعته بابتسامة كي انشر جوا من الحميمية، وطلب مني طارق أن أذهب بتقرير طبي من المستشفى إلى ادارة كُلِّيّتِه في الجامعة أملا في اعذاره عن مدة غيابه التي طالت لأكثر من ثلاثة أشهر…
وعندما أنبأته بسؤال ادارة مركز أبحاث الحج هز رأسه قائلا:
-لا أرغب في أن أتحدث الى شخص آخر!
وأُّذنَ لصلاة المغرب فنهض يتهيأ للصلاة وانصرفنا نحن…
ما ان تماثل طارق للشفاء الاّ ودعوته الى بيتي لتناول العَشاء ومن ثمّ الحديث، فاشترط عليّ بأن لا أدعو أحدا آخر فقبلت ذلك على مضض، وجلس طارق وبيده كتاب الظلال، والعهد به لا يفوّتَ دقيقة من وقته الاّ وبيده ما يقرأه…
فبادرته قائلا:
-يااخي أولا الحمدلله على السلامة، كدي بالله ياطارق احكي لي الحصل عليك شنو تقديرا للصداقة والأخوة البيني وبينك.
فأطرق طارق ولم يجب، ثم فاجأتني اجابته:
-رجاء ياأخ عادل أنا لا أود الخوض في هذه التفاصيل، فقد جئتك كي أبرئ ذمتي فيك أمام الله!
الحق أقول لقد استبدّت بي الدهشة فالرجل قد تبدلت تعابير وجهه فجأة، وواصل:
-عادل أنت أخ وصديق عزيز، وأنا والله شهيد على ما أقول أحب لك الخير في الدنيا والآخرة…
ثم صمت قليلا وواصل:
-ياأخ عادل نحن لم نُخلق الاّ لعبادة الله اليس كذلك؟
فأجبته بأن نعم…
-طيب، والله الذي تجب علينا عبادته يأمرنا بأن يكون لنا منهج نتبعه ونقايس عليه حراك حياتنا أليس كذلك؟
فأجبته بأن نعم، ولكن ماهو هذا المنهج؟
وهنا اعتدل في جلسته وبدأ يتحدث لي عن أن المجتمع الحالي كافر كما يقول الله في قرآنه ويقول رسولنا صلوات الله وسلامه عليه وشرع يبين لي الآيات والأحاديث التي يحسَبُها تقول ذلك…
صمتُّ حتى أكمل كل حديثه فقلت له:
-ياأخ طارق ألم يكن هناك بعوسلامه لا بين صحابة رسول الله في تفسير بعض الآيات؟
فقال نعم، ولكنها اختلافات طفيفة لا ينبني عليها حكم فكري الاّ في مسائل شعائرية صغيرة…
فقلت له، لا ياأخي طارق، هناك اختلافات وآراء في أمور كثيرة مثل الغناء والموسيقى وسواها تترتب عليها أحكام وضوابط لحراك الناس،
وهناك أيضا أمر الردة واختلاف العلماء حوله وأنت تعلم ذلك…
فما كان منه الاّ أن قاطعني وقد بدأ صوته يعلو قليلا:
-ياعادل هذه أشياء كنا نقنع أنفسنا بها سويا من قبل، ولم أكن حينها قد تثبتُّ منها…
فقلت له مقاطعا:
-شوف ياأخ طارق بالنسبة لي أنا لم أزل مقتنع بتلك الآراء، وقد قرأت كل الأدلة التي تسند رؤيتي وانا مقتنع بيها قناعة تامة…
فما لبث أن وقف وقال:
ان كان هذا رأيك فاني لا أقول فيك الاّ ما أمرني ربي بأن أقوله لك وهو أنك كافر ياعادل!
وخرج طارق دون أن يستجيب لرجائي بالبقاء قليلا للاتيان بالعَشاء…
ماأقسى أن تفقد صديقا بهذه الصورة، وماأقسى الفقد عندما يكون (فكريا)!
وماأقسى الفكر عندما يكون الدين له مناطا وتمام اعتقاد.
كلما استقبلت من ذكرياتي ما استُدبِرَ تنبري إلى خيالي صورتان لطارق، صورة كما البدر ينثر الضوء على كل الناس لا يتخير منهم أحدا دون أن ينأى عن آخر…
وكالغيث يروي الآكام فهو اينما وقع نفع…
فلعلها نصيفٌ من تلك الآية الرحيبة {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة}…
ثم صورة أخرى دونها كل السلب والاعتام…
فلكأنها الشق الآخر من ذات الآية الرحيبة (ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة)
هنا، تستبدُّ بي (فوضى الحواس)!
فينبري لي كتاب ظلال القرآن بذات التوصيف لصورتي صديقي طارق!
سوح من جَمَال وفضاءات من اللغة البديعة والأدب الرصين والعلم والايمان…
ولكن على أوراق الزهور تتربص تلك النحلة تلوّحُ بشوكتها لكل بنان!
يالفوضى الحواس هذه…
وياللصفاء والسكينة عندما يكتنفه ازعاج طبول الشنآن.
وبدأت صلة طارق بالجامعة تفتر شيئا فشيئا، وما لبث أن رسب في الفصل الدراسي الأول من العام ما قبل الأخير من تخرجه بسبب عدد مرات الغياب!
وأصبح لا يُرى الاّ لمما حيث يكون دوما في رفقة شبّان عرب ملتحين…
وفي مساء يوم جمعة اذ بي اراه أمام مكان لبيع خبز التميس في حي من أحياء مكة أسمه (المِسْفَلَة)…
رأيت طارق في رفقة ثلاثيني له لحية طويلة مدببة ويبدو من هيئته وتقاطيعه بأنه يمني الجنسية…
ظل طارق في رفقة ذاك الرجل كلما التقاه زميل من الزملاء…
وما ان بدأ الفصل الدراسي الثاني حتى قمت بتسجيل مادة للغة العربية تُعَدُّ من متطلبات الجامعة الأساس لكل الكليات علميُّها وأدبيُّها…
حضرت الى المحاضرة الأولى فاذا بالأستاذ أحد أعضاء مجلس ادارة مركز أبحاث الحج -الذي عملت فيه مع طارق عديد مرات، وما انتهت المحاضرة الاّ ورأيت الأستاذ يشير اليّ بالحضور الى مكتبه فتبعته، مدّ الرجل اليّ يمينه مصافحا وهو يسألني في الحاح عن طارق قائلا:
-طارق هذا أجده من أفضل الطلبة عنديّ منذ العام الأول، لكنني حزين جدا لما آل اليه مستواه أخيرا…
وعندما تبينت اعزازه لطارق وحبه له لم أملك الاّ اخباره بحال طارق ومآله فحزن له كثيرا، واتفقت معه بأن أوصله اليه وفعلت…
أجتهد الأستاذ كثيرا مع طارق الذي توقف عن الدراسة لكنه لم يجد منه رغبة في الحديث ولا-حتى- للعودة لمواصلة دراسته…
ومرت الأسابيع فاذا بي ارى طارق برفقة ذات الرجل يجلسان من ضمن آخرين يتدارسون…
تلصصت عليهم من بعيد لأعرف الشيخ الذي يتحلقون حوله فلم أجد لهم شيخا حيث كانوا يجلسون على شكل حلقة يتدارسون، فجلست بالجوار حتى فرغوا من درسهم ونهضت ووقفت في الطريق الذي سيسلكونه وهم خارجين من صحن الحرم، وفاجأتهما جاعلا لقائي يبدو وكأنه مصادفة، وسلمت على طارق الذي عرّفني بالرجل قائلا بأنه اسمه عبدالله الخليفي وهو من اليمن.
لكنني علمت بعد ذلك بأن عبدالله الخليفي هو قائد المجموعة التكفيرية التي هاجمت مسجدا لأنصار السنة المحمدية في حي الثورة الأمدرماني بالأسلحة النارية فأزهقوا أرواح 25 من المصلين السودانيين في العام 1993…
وكم دُهشتُ عندما قيل بأن عبدالله الخليفي هو ليبي الجنسية وليس يمنيا كما كان يقول للناس عندما كان في مكة المكرمة!
ولكن، ماذا تضيف أو تخصم الجنسية والأصل والفصل عندما يسوء الفكر والمنهج!
لنقرأ هذا الحديث الشريف الذي يبين الكثير!…
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) رواه البخاري
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله، معنى الحديث: النهي عن التشديد في الدين، بأن يحمِّل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمله إلا بكلفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه) يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة، فمن شاد الدين غلبه وقطعه.
لقد تحصلتُ على أسماء المهاجمين الذين رافقوا عبدالله الخليفي خلال هجومهم على المسجد في امدرمان فلم أجد اسم طارق…
ولم أزل أسائل زملاء الدراسة ولا أحد يدري شيئا عن الرجل!
سافرت الى حيث أعلم مكان سكن أسرته فوجدته لم يتصل بهم منذ عام وأشهر!
وقد كان ذلك خلال أكتوبر 2013…
وبقيت أتواصل معهم دون أن يجد جديد عن طارق…
ولكني علمت بعد ذلك من خلال مصدر أثق فيه أنه التقى بطارق في مطار الملك عبدالعزيز الكائن في مدينة جدة وهو يتمم اجراءات سفره…
سألت الرجل:
-هل تأكدت أنه طارق ورأيته بعينك؟!
-نعم ياعادل وهل يخفى عليّ طارق، لقد التقيته وصافحته وعندما سألته (مسافر وين)؟ لم يجبني، فتركته وشأنه
فما كان مني الاّ أن أتصلت بأسرته في السودان مستفسرا فأخبروني بأن الحال كما هو وانهم لاجديد لديهم عن طارق!
ولم تنس والدته بأن تترجاني- من بين زخات أدمعها وبصوت متهدج باك- وتوصيني بالبحث عنه وتطمينها عنه!!
ترددت في البدء، لكني ارتأيت تطمينها عن الرجل فقلت لها بأن طارق حي يرزق وقد التقاه صديق مشترك عندما كان مسافرا الى جهة لم يحددها له…
لعمري!…
ياااااه
ماهو هذا الفكر الذي يجعل المرء لايسأل -مجرد سؤال-عن والدته وأشقائه وشقيقاته؟!
اسال الله ان يهديك ياطارق ويحفظك من شر نفسك ويعيدك الي ذات النهج الذي عهدته فيك خلال ربيع سنواتنا في مكة المكرمة…
انك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.
…
خالد الأيوبي
:: كــاتب نشــط::
الاخ عادل
تحياتي واحترامي
هذا بوست كامل الدسم. و لا اظنني أجانب الحقيقة لو قلت انه حقق كل الأغراض التي من أجلها كانت المنابر ومواقع التواصل ومنها منبر سودانيات.
إنه حوار فكري .. وهو سرد مشوق. هو كتابة رصينة وهو قصة انسانية. هو توثيق لاحداث و مواقف وهو تقرير و تحليل. و هو سياحة في أماكن لها عبيرها و ألقها و عظمتها. و هو معرفة و تنوير و إعلام و إستفادة. وهو في طياته عبر و معاني و قيم كتيرة لا تنحصر في الصداقة و الوفاء بل تتعداها
و أخيرا هو درس يستفاد منه
فتسلم يا رجل.
عادل عسوم
adilassoom@gmail.com