قصة يسار مهمّش .. الحركات الثورية في إفريقيا

لم تكن الحركات اليسارية في إفريقيا أقل من غيرها في بقاع عديدة من العالم من حيث نشاطها وتأثيرها، لكنها لم توثق بشكل كافٍ. يسلط هذا الكتاب الضوء على العقود الراديكالية في إفريقيا، ويكشف عن رؤى جديدة ومهمة في التاريخ الثوري العالمي.

عندما كان اليسار الثوري في الستينات والسبعينات في أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية موضوعاً لمناقشات كثيرة، لم تحظَ الحركات المماثلة التي ظهرت في إفريقيا باهتمام كبير نسبياً. ومع ذلك، كان اليسار الراديكالي في إفريقيا نشطاً للغاية في هذه السنوات. ومع الحركات المؤيدة للسوفيبت، والماوية، والتروتسكية، والغيفارية، والوحدة الإفريقية، والفهود السود، كان صدى الثورات محسوساً في جميع أنحاء القارة. فمن الطالبات المتمردات النسويات في نيجيريا إلى الحركات المؤيدة للديمقراطية في ليبيريا، أدى التفاعل المثير والمعقد بين هذه الجهات الفاعلة العديدة إلى تغيير إفريقيا إلى الأبد. فهل يمكننا أن نرى أصداء هذه الحركات في السياسة الإفريقية اليوم؟ ماذا يمكننا أن نتعلم من الأشخاص الذين عاشوا هذه العقود؟ وكيف يمكن للنضالات الثورية في القارة اليوم أن تتعلم من هذا التاريخ الغني؟

في هذا الكتاب الصادر عن ‎ دار «بلوتو برس» للنشر في ديسمبر 2023 باللغة الإنجليزية ضمن 482 صفحة، يشير المؤلف إلى أن العملية التي جعلت هذا الكتاب ممكناً في ديسمبر(كانون الأول) 2018 عندما تمت كتابة دعوة لتقديم مساهمات لمؤتمر مقرر في أكتوبر(تشرين الأول) 2019 في داكار، السنغال، ونشرها من جانب ندونغو سامبا سيلا، وليو زيليغ، وباسكال بيانشيني. وقد تم استلام نحو 40 مقترحاً، اختار المنظمون واللجنة التحكيمية 21 منها. وبعد ذلك، لمدة ثلاثة أيام (30 و31 أكتوبر و1 نوفمبر) اجتمع نحو 30 من المساهمين والناشطين والمناقشين في داكار. خلال اليوم الأول، بعد الجلسة الافتتاحية، قدم أعضاء سابقون في اليسار الثوري السنغالي (بما في ذلك عضو من موريتانيا) شهادات حميمة وتناقشوا وتحدثوا عن نشاطهم السابق. وخلال اليومين التاليين، تم عرض الأوراق المختارة ومناقشتها. كانت مزيجاً من المناقشة الأكاديمية والذكريات العسكرية. وقد دفع هذا الجو الخاص والفريد المحررين إلى نشر هذا العمل.

التاريخ الثوري المهمّش

شهد تاريخ الحركات اليسارية الثورية في إفريقيا تجاهلاً إلى حد كبير حتى بين علماء السياسة والمؤرخين والأدبيات الأكاديمية التي تتناول إفريقيا. تتكون معظم الأدبيات الموجودة من مذكرات الناشطين السابقين. ومع ذلك، فإن معظم الناشطين العاديين وحتى بعض قادة هذه الحركات ذهبوا إلى قبورهم دون أن تتاح لهم الفرصة لرواية قصصهم. علاوة على ذلك، فإن الآراء الواردة في هذه الكتب متحيزة حتماً. وثمة قيد آخر هو ندرة الوثائق الأصلية. وهنا تكمن المفارقة، لأن جزءاً مهماً من كل النشاط النضالي هو نشر المطبوعات. على الرغم من أن الاكتشافات ممكنة دائماً ويتم العثور على وثائق، إلا أن الواقع هو أنه في معظم الأحيان لم تعد المنشورات موجودة لأسباب مختلفة: بسبب الخوف من القمع (خلال سنوات الثورة أولئك الذين وجدوا بحوزتهم هذه المواد) يمكن احتجازهم لدى الشرطة وإرسالهم إلى السجن)، إلى جانب قسوة المناخ وكذلك الانتقادات اللاذعة.

يقول المحررون: «إن اختفاء اليسار الثوري الإفريقي في الأدبيات الموجودة يتناقض مع الوضع السائد في القارات الأخرى، حيث نجد مجموعة غنية من الكتب حول هذا الموضوع. وبدلاً من البحث الجاد حول هذه القضية، نجد البحث والكتابة حول القضايا ذات الصلة مثل الثورات والانتفاضات الإفريقية، وحرب العصابات التي تشنها حركات التحرير ضد الجيوش الاستعمارية أو الاستعمارية الجديدة. وقد ركزت منشورات أخرى على الأنظمة الثورية. ولا يزال من الممكن العثور على المزيد من الأبحاث حول شخصيات بارزة، فضلاً عن الأبطال الثوريين المأساويين، مثل أميلكار كابرال أو توماس سانكارا الذين فقدوا حياتهم في النضال (وباتريس لومومبا الذي فقد حياته) في بداية استقلال الكونغو. وأخيراً، سلطت بعض المساهمات الضوء على العلاقات التي تطورت بين الناشطين والثوريين الأفارقة والدول الاشتراكية السابقة والجاذبية التي يمارسها هذا النموذج من الاشتراكية، ومؤخراً على العلاقات بين حركات التحرر الإفريقية والدول الاشتراكية والأحزاب الشيوعية الغربية».

محاولة لتعريف اليسار الإفريقي

يرى محررو الكتاب: «إن التوجه نحو اليسار يعني بشكل عام موقفاً مؤيداً للمساواة، ليس فقط فيما يتعلق بالحقوق أو الفرص للفرد، ولكن أيضاً كمبدأ منظم للمجتمع، وخاصة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي. ويشير أيضاً إلى القيم التقدمية المعارضة للمفاهيم المحافظة والتقليدية والشوفينية التي تميل إلى الحفاظ على سيطرة الرجال على النساء، والكبار على الشباب، وما إلى ذلك، وإلى رفض ووصم الأقليات بالمعنى الواسع لهذه الكلمة. وكانت هذه الالتزامات الأيديولوجية موجودة بين اليسار الثوري الأفريقي. ومع ذلك، كان للحكم الاستعماري والهيمنة الإمبريالية تأثير على هذا«التعريف العالمي المقبول عموماً». ولم تكن العلاقات الطبقية هي نفسها كما هي الحال في المجتمعات الغربية.

لقد تم حجب الانقسامات الكلاسيكية بين البروليتاريا والبرجوازية بسبب الحكم الاستعماري وبناء الدولة في مرحلة ما بعد الاستعمار. كانت النضالات المناهضة للاستعمار والإمبريالية عوامل أساسية في الساحات السياسية الناشئة منذ الثلاثينات. علاوة على ذلك، فإن الأساس الاجتماعي الأوّلي للمنظمات اليسارية (النقابات العمالية والأحزاب السياسية) كان موجوداً بين عمال المدن، وبشكل أكثر تحديداً في الحركات الطلابية التي بدأت وقادت أحياناً النضال ضد الاستعمار والاستعمار الجديد والتي كانت في موقف محدد لتعزيز العلاقات القومية على مستوى الدول».

ويضيفون: «أما فيما يتعلق بمصطلح «ثوري»، فإن الثورة تعني تغييراً جذرياً في النظام الاجتماعي. ومن الناحية العملية، أصبح يُنظر إلى السياسات الثورية في العالم الغربي على أنها «سياسات غير تقليدية، تتحدى الديمقراطية «الرسمية» و«البرجوازية» (أو الرأسمالية). واعتبرت المشاركة في الانتخابات فرصة لتعميم الأفكار وتحقيق الزخم لصالح العمليات الثورية. ومع ذلك، في حالة الظروف الاستعمارية أو ما بعد الاستعمارية، فإن الديمقراطية التمثيلية والتعددية الحزبية والانتخابات النزيهة لم تدم طويلاً بشكل خاص، هذا إذا كانت موجودة أساساً. في هذه الظروف، ظهرت فكرة حمل السلاح كردٍّ منطقي على دولة الحزب الواحد والديكتاتورية كما في حالة جبهة التحرير الوطني في تشاد في الفصل السابع من الكتاب».

ويرى المؤلفون أنه على الرغم من أن الستينات والسبعينات كانت سنوات ذهبية للحركات الثورية في إفريقيا، إلا أنه يجب على المرء أن يأخذ في الاعتبار التطورات السابقة المرتبطة بتطرف النضالات المناهضة للاستعمار في نهاية الخمسينات. على سبيل المثال، ولادة حزب الاستقلال الإفريقي الذي يناقشونه في الفصل الأول المتعلق بالسنغال. ومن ناحية أخرى، كانت فترة الثمانينات أيضاً بالنسبة لبعض البلدان فترة تنظيم ثوري بأشكاله المختلفة (وكذلك حالة النيجر، لا بد من ذكر حالة الحزب الشيوعي الثوري الفولتي) الذي يناقشه المؤلفون في الفصل الثالث المخصص لبوركينا فاسو.

عوائق أمام اليسار في إفريقيا

على النقيض من بقية العالم، حيث تمت كتابة المقالات والدراسات والتاريخ عن الحركات اليسارية الراديكالية خلال أوجها، فإن هذا ليس هو الحال بالنسبة لنظيراتها الإفريقية. للوهلة الأولى، يبدو تاريخ الحركات الثورية الإفريقية أقل ملحمية مقارنة بالثورة الكوبية في أمريكا اللاتينية أو بالحرب الشعبية الفيتنامية التي ألهمت الحركات الثورية خلال الستينات والسبعينات، لتبدو القارة الإفريقية أرضاً غير مناسبة للنضالات الثورية.

يعلق المحررون بالقول:«أعرب تشي غيفارا، الشخصية الأكثر شهرة في الستينات، عن تحفظاته بشأن احتمالات الانتصارات الثورية في إفريقيا. وبعد محاولته الفاشلة في الكونغو، كتب: «كان أمام إفريقيا طريق طويل لتقطعه قبل أن تحقق النضج الثوري الحقيقي». ومع ذلك، فإن العديد من الحركات الثورية حول العالم خلال الستينات والسبعينات، حتى لو كانت قادرة على تحدي الدولة، هُزمت أخيراً، على سبيل المثال، الناكساليت في الهند والتوباماروس في الأوروغواي، فضلاً عن الفهود السود في الولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك، فقد أثّرت تجربتهم في ثوريين من بلدان أخرى. لا تزال فكرة «عدم نضج الشعب الإفريقي» المشبع بالقيم التقليدية المحلية بمثابة تحيز أساسي حول وجهات النظر الثورية في إفريقيا بين العديد من المعلقين، على الرغم من أنها فكرة خاطئة رهيبة، خاصة عندما يتم التعبير عنها بشكل عام على مستوى القارة».

ويضيفون:«علاوة على ذلك، فإن النضالات غير العادية ضد الاستعمار وإنشاء دول مستقلة جديدة حدثت خلال الحرب الباردة. اعتبر المراقبون أن الحركات المناهضة للاستعمار والمنظمات الراديكالية داخل هذه الحركات هي وكلاء للاتحاد السوفييتي وليست جهات فاعلة مستقلة، وبهذه الطريقة يمكن لمعلق أمريكي معروف أن يكتب: (لقد دعم الاتحاد السوفييتي التطور القومي في إفريقيا كجزء من استراتيجيته العالمية لخلق حالات من اللااستقرار والضعف داخل العالم الغربي، ولتدريب وتلقين كوادر القيادة الشيوعية مع توقع أنه من خلال التلاعب بالسخط الجماهيري والرموز القومية، يمكنهم الاستيلاء على السلطة في الجمهوريات السوفييتية الإفريقية، وبشكل عام، تنفيذ مقولة لينين بمهاجمة الغرب عبر الأراضي التابعة له).

لعدة عقود، ظلت الإشارة إلى الماركسية في حركات التحرر هذه تعتبر أساسية، ووفقاً لهذا الرأي، لم تتمكن الحركات والسياسات الراديكالية من النجاة من انهيار الكتلة الشرقية. ويقول محررو الكتاب:«إن فكرة أن الناشطين والثوريين استوردوا ببساطة مفاهيم فكرية جاهزة من مخطط ماركسي لينيني هي في أحسن الأحوال وجهة نظر ضيقة، وفي أسوأ الأحوال هي رؤية متعالية وفكرة استعمارية بعمق. وبطبيعة الحال، يجب ألا يقودنا هذا الموقف المبدئي إلى تجاهل العقبات العديدة التي تواجهها الحركات اليسارية في أفريقيا سواء لأسباب خارجية أو داخلية».

خلال القرن العشرين، ارتبط تغلغل الأفكار الشيوعية بالمعنى المعاصر للكلمة بإنشاء المؤسسات الاستعمارية والقوى العاملة اللازمة للاقتصاد الاستعماري. ثم جاءت القضية الكبرى المطروحة لتطور التنظيمات اليسارية (الشيوعية بالأساس) وهي العلاقة مع الحركات القومية الناشئة، على الرغم من أنه حتى عندما انتهت الفترة الاستعمارية، ظلت العديد من المناطق بعيدة عن متناول المنظمات المتأثرة بالشيوعية: (تم العثور على النفوذ الشيوعي في الشمال والجنوب وبدرجة أقل في الغرب، ولكن لم يكن هناك أي نفوذ شيوعي في شرق إفريقيا. وبشكل عام، فإن سكان القارة الريفيين والفلاحين الذين يهيمنون على سكان القارة جعلوا من نشر الأفكار الشيوعية أمراً صعباً أو حتى مستحيلاً).

ويضيف المحررون بالقول:«إذا عدنا إلى ماركس نفسه، فإننا نعلم أنه كان من بين المنظرين الأوروبيين القلائل من جيله الذين لم يحاولوا إخفاء «دَينه» لإفريقيا. يُظهر العمل الأخير للباحث النيجيري بيكو أغوزينو كيف كان المنحدرون من أصل إفريقي محوريين في نظرية ماركس وممارسته وكتاباته، بما في ذلك كتاب (رأس المال). بالإضافة إلى كتاباته الرئيسية، كانت هناك الرسائل التي كتبها من الجزائر في نهاية حياته، أو بشكل أكثر أهمية، المقالات عن الأمريكيين من أصل إفريقي خلال الحرب الأهلية في الولايات المتحدة. على الرغم من اعتبار تركيزه على أوروبا، إلا أن عمله كان ملهماً للعديد من المفكرين الأمريكيين من أصل إفريقي والأفارقة، لذلك أثرت الأفكار الماركسية بعمق في «صناعة التقليد الراديكالي الأسود». والأمر الأكثر غير المتوقع هو أننا إذا ألقينا نظرة فاحصة على شخصية بارزة مثل الشيخ أنتا ديوب، الذي غالباً ما يرتبط ب «المركزية الإفريقية»، نلاحظ أن كتاباته لم تتجاهل التحليل الماركسي، وأن مشاركته في السياسة السنغالية مع حزب التجمع في أواخر السبعينات على صلة بالناشطين الماركسيين من حزب الاستقلال الإفريقي، ومن الجماعات الماوية التي انضمت إلى الحزب الذي أنشأه. وفي إفريقيا، حدث «ازدهار» الأفكار الثورية الماركسية بشكل خاص خلال العقود التي يتناولها هذا الكتاب. وفي وقت لاحق، تراجعت هذه الأفكار من القارة، ما قد يعطي انطباعاً خاطئاً تماماً بأنها كانت في الأساس موضة غربية. غير أن هذا الانحدار الأيديولوجي للماركسية لا يقتصر على إفريقيا فحسب، بل كان ظاهرة أكثر عمومية وعالمية.

ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
عن المؤلف: باسكال بيانشيني وندونجو سامبا سيلا وليو زيليج
* باسكال بيانشيني هو باحث مستقل ألف كتباً ومقالات حول سوسيولوجيا التعليم والحركات الاجتماعية، وخاصة الحركات الطلابية في إفريقيا، وقام على مدى عقد من الزمن بإجراء أبحاث حول اليسار الثوري في السنغال.
* ندونجو سيلا هو باحث أول في مؤسسة روزا لوكسمبورغ، وهو معروف بكتاباته الاقتصادية الراديكالية، وخاصة عن القضايا المالية النقدية والحركات الاجتماعية والتعبئة الديمقراطية في إفريقيا.
* ليو زيليج هو محرر لمجلة الاقتصاد السياسي الإفريقي وموقعها الإلكتروني، وقد نشر مقالات عن الحركات الطلابية والصراعات الطبقية في إفريقيا، وهو أيضاً مؤلف للعديد من أعمال السيرة الذاتية لفانون، ولومومبا، وسانكارا، ومؤخراً والتر رودني.

جريدة الخليج

Exit mobile version