هل كانت اللوحة الشهيرة لبيكاسو عن المذبحة البشعة التي ارتكبها النازيون في المدينة الإسبانية غيرنيكا وحملت، أي اللوحة، اسم المدينة ذاتها، ستكون بالشهرة التي حظيت بها لو أن الظروف التي رسم فيها بيكاسو لوحته أشبه بظروفنا اليوم؟ كانت اللوحة إدانة للجريمة، لبشاعة الفاشية وقبحها ودمويتها وتجردها من القيم الإنسانية، بل إن اللوحة إدانة لفكرة الحرب على وجه الإطلاق، لما تجرّه على البشر من أهوال ومصائب وفواجع ودمار وتهجير.
كان العالم قد صعق في عام 1937 بما ارتكبه النازيون نصرة لحليفهم فرانكو في حربه الشرسة ضد الجمهوريين الإسبان، وكانت غيرنيكا بمثابة العاصمة الثقافية والروحية لإقليم الباسك الإسباني، حين قرر هتلر بالتواطؤ مع فرانكو أن يجعل من معاقبتها عبرة لمن يريد أن يعتبر، فبالغ في تدميرها حين ألقت قاذفاته على المدينة الوادعة أطناناً من القنابل التي أوقعت أعداداً هائلة من الضحايا لا لهدف استراتيجي محدد، وإنما لإخافة العالم من المنتظر، من الجزاء الذي ينتظر كل من يقف ضد الفاشية التي كانت تبلورت على شكل مشروع انتحاري جهنمي عرف العالم فيما بعد نتائجه المروعة.
سجل بيكاسو في خالدته تلك المأساة. إن الألم يكاد ينطق في كل تفصيل من تفاصيل اللوحة التي تدفعنا إلى أجواء المأساة عبر الوجوه والأعناق المشرئبة للسماء، وهي تصرخ من الألم، والجثث الملقاة على الأرض وتفاصيل أخرى نراها بارزة في اللوحة.
هل كانت لوحة بيكاسو ستنال كل هذا الخلود لو أنها رسمت في ظروف أخرى غير ظروف تلك الأيام يوم أراد الفنان ذو الأصل الإسباني المهاجر إلى باريس أن يوثق الجريمة شاهداً على بشاعة الحرب وأربابها؟ هل كنا سنحافظ على نفس المقدار من الانفعال ونحن نشاهد لوحة مشابهة لفنان معاصر في وزن بيكاسو وهو يوثق جريمة أخرى من جرائم الحروب المعاصرة في غزّة وكامل فلسطين؟ نطرح هذا السؤال لنقول إن التطور المذهل في وسائل الاتصال قد جعلنا شهوداً على الحروب لحظة وقوعها، فالصور التي تبث مباشرة من موقع هذه الحروب تنقل إلينا مقدار البشاعة والوحشية في فكرة الحرب والإبادة الجماعية وقتل الأبرياء.
ليس علينا أن ننتظر شهوراً أو سنوات حتى نرى لوحة توثق ما يجري في خان يونس أو رفح أو سواهما.. ما نراه من فيديوهات على مدار الساعة عن هول ما يجري يعني أن «غيرنيكا» ليست ماضياً فقط. إن «غيرنيكا» الفلسطينية بأطنان القنابل التي تلقى عليها، لا تقل بشاعة ودموية ووحشية عن «غيرنيكا» الإسبانية، التي ربما ما كانت الأجيال ستعرف هول ما جرى فيها، لولا لوحة بيكاسو الخالدة.
حسن مدن – جريدة الخليج