وداعا جوليا, مرحباً بميلاد جديد للسينما السودانية

وداعا جوليا, مرحباً بميلاد جديد للسينما السودانية:
تبدأ أحداث الفيلم عند وفاة جون قرنق عام 2005. يقوم الجنوبيون بأعمال شغب وإحراق وإتلاف ممتلكات في الخرطوم.

يعمل سانتينو في استوديو ويستأجر منزلاً لنفسه ولزوجته الجميلة جوليا وطفلهما الذكي؛ داني.

بسبب أعمال الشغب، صاحب المنزل يطلب من سانتينو المغادرة بسبب الضغوط السياسية المتعنصرة من سكان الحي. يأخذ سانتينو عائلته للعيش مع قريبته اللطيفة التي تصفي وتبيع العرقي.

منى ربة منزل تشعر بالملل والغربة عن زوجها أكرم الثري المتشدد والمحافظ إلى حد ما. أثناء قيادة سيارتها، تصدم منى داني وتفكر في مساعدته في الحصول على الرعاية الطبية ولكن عندما ترى والده سانتينو مسرعًا تجاهها على دراجته النارية تشعر بالخوف وتهرب . سانتينو يطاردها بدراجة نارية. منى تتصل تلفونيا وتطلب المساعدة من زوجها أثناء هروبها. عندما تصل إلى المنزل، تنزل من سيارتها، ينزل سانتينو “الزنجي” من الدراجة النارية. لكن كان أكرم زوجها عند الباب جاهزًا ببندقية. يطلب أكرم من الزنجي أن يتوقف. ثم عندما لا يبدو أنه توقف، يطلق عليه النار ويرديه قتيلا.

درامية المشهد الإفتتاحي للفلم تثير اهتمام الجمهور المشاهد على الفور. لكن المشهد يقدم أيضًا أحد نقاط “الضعف” القليلة في الفيلم ، وأعني بذلك لا-معقولية وضعف احتمال وقوع هكذا حدث في الخرطوم. الخرطوم ليست مادلين، ولا نيو أورليانز ولا جوهانسبرج ولا يوجد رجل أعمال مسلح من الطبقة الوسطى يتصرف كصاحب مزرعة في عصر العبودية في أمريكا أو في تكساس حاليا.

ومن المصادفات الأخرى غير المحتملة أن رجل اللجنة ذو البشرة الفاتحة الذي نسق إخلاء سانتيو من منزله بعد أعمال الشغب التي تلت مقتل قرنق هو جار أكرم الذي أطلق النار على سانتيو. يراقب رجل اللجنة إطلاق النار على سانتينو، ويقوم بسرقة دراجة القتيل النارية. ثم يحرك شبكة علاقته مع السلطة أيضًا لتلفيق أسباب وفاة سانتينو وجعل الأمر يبدو وكأنه قُتل في ظروف مجهولة أثناء أعمال الشغب وبالتالي ينقذ أكرم من معاناة مواجهة القانون والعواقب.
تشعر منى بالندم لتسببها في كل هذه الفوضى بدءًا من ضرب الصبي الصغير بسيارتها، ومطاردة والده، واستدعاء زوجها الذي ينتظر عند باب منزله ومعه بندقيته المحملة ويطلق النار على سانتينو دون داع.

منى التي تعاني من عقدة ذنب تبحث عن عائلة القتيل لمساعدتهم وإراحة ضميرها. وتقوم برشوة رجل شرطة ليحضر لها معلومات عن سانتيو. أعطاها الشرطي ما تحتاج إلى معرفته وأوراق هوية سانتيو. تحتفظ مني بأوراق الهوية في وعاء في المطبخ علي الطريقة العريقة للمرأة السودانية عندما تريد إخفاء شيء ما. أعتقد أن لصوص الجنجويد عثروا على الكثير من الذهب والعملات الأجنبية محفوظة داخل عدة مطابخ المرأة السودانية.

وجدت منى أخيرًا جوليا التي أصبحت بائعة متجولة للمواد الغذائية البسيطة تجلس تحت شجرة لكسب لقمة العيش. تشتري مني منها الكثير من بدرة البامية المجففة (الويكة ) التي لا تحتاج إليها. تتفاجأ جوليا بحجم الطلب، وتتساءل عما إذا كانت منى تخطط لوليمة للأصدقاء والعائلة للاحتفال بشيء ما. لاحقًا، عندما ذهبت جوليا إلى منزل منى، وجدت البامية منسية وغير مستخدمة.

إدراكًا لصعوبة الذهاب لرؤية جوليا كل يوم تحت الشجرة وصعوبة تقديم دعم قيم بالشراء الزائد يوميًا، لاحقًا تقنع منى جوليا بالعمل لديها كعاملة منزلية (خادمة بالمصطلحات القديمة).
بعد فترة وجيزة من بدء جوليا وظيفتها الجديدة، يقبض البوليس على قريبتها التي تعيش معها جوليا في كشة/ مداهمة شرطة بتهمة بيع العرقي، مما يعني أن جوليا يجب أن تنتقل للعيش في مكان آخر بعيد.

عندما تواجه جوليا حقيقة أنها مضطرة للعيش مع قريب آخر بعيدًا، مما يعني أنها لا تستطيع قطع المسافة الطويلة للعمل مع منى تستقيل من العمل لكن منى تقول لها إنها تستطيع أن تأتي مع طفلها، داني، وتعيشمعها في منزلها لتجنب أتعاب المواصلات المستحيلة.
نجح الفيلم في بناء تطوير شخصية معقدة لكل من منى وأكرم زوجها. من ناحية، منى كاذبة بدرجة مرضية لا تستطيع التوقف عن الكذب على زوجها بعد موافقتها على التخلي أحلامها كمغنية وعن مسيرتها الغنائية لإنقاذ زواجها عندما كان بإمكانها اتخاذ خيارمفارقة أكرم وممارسة المهنة التي تحب. ولكن من ناحية أخرمني أيضا موهوبة ولها قلب طيب للغاية وضمير حي.

ومن ناحية أخرى، يطور الفيلم شخصية أكرم زوجها، بشكل معقد أيضًا. فهو رجل أعمال واقعي ومستقيم لا يحب المسخرة والهراء ومجتهد، نحت حياة كريمة لعائلته بينما استمر في الصبر على عدم قدرة منى على الولادة وواصل في تصديق أكاذيبها عن أسباب عدم قدرتها على الإنجاب. وقد تقبل سكن جوليا وداني معهم في الدار بصدر رحب. ومن ناحية أخرى، فإن أكرم متدين، عنصري إلى حد ما، متشدد ودين حجر يصليح لتذكير كل إمراة بالأيكس بتاعها. ومن أجل التوازن الجندري، فإن أكرم أدائه التمثيلي الممتاز قد يذكر الكثير من الرجال بأب زوجاتهم السابقات الذي جعلهن معقدات وصعبات.

على الرغم من أن أكرم ليس الشخصية الرئيسية، إلا أن أدائه كان رائعًا، كدين حجر حقيقي تم تجسيده بشكل جيد للغاية. كما تم أداء دور منى بشكل جيد ولكنها بدت مكتئبة عميقا طوال الوقت، وهو أمر مفهوم ولكن الممثلة لم توصل حالات عاطفية أخرى بنفس التميز في إظهار اكتئابها الذي فاق الحد ولكن الديبرشن سلطان.

واجهت منى دائما مشكلة مع زوجها الذي أعترض على مسيرتها الغنائية وصداقاتها في مجتمع الغناء. أمسكها وهي تكذب عليه. منى كاذبة متسلسلة ماهرة. يوافقان على إعادة الزواج بشرط أن تتوقف عن الغناء. توافق رغم أنها موهوبة ولا تعاني من الفقر. كان بإمكانها أن تقول له لا، وتستمر في الطلاق وتغني بقدر ما تريد. لكنها وافقت على التوقف عن الغناء ثمناً للحفاظ على زواجها من رجل الأعمال الثري أكرم. كما تكذب منى باستمرار على زوجها بشأن الأسباب الطبية لعدم قدرتها على الولادة. وتكذب بشأن أشياء أخرى كثيرة.

أصبحت منى وجوليا صديقتين حميمتين لا تعيشان في علاقة بين مخدم ومستخدم ولكنهن أقرب إلى صديقات مقربات أو بنات خالات.

تريد جوليا تعليم داني لكن المدرسة العامة بعيدة. تتطوع منى لإلحاقه بمدرسة خاصة فاخرة ومكلفة على نفقتها. يتساءل أكرم عن الحكمة من إرسال داني إلى مدرسة خاصة للدراسة مع أطفال الطبقات الغنية في الخرطوم، ويقول لمنى أنه سيكون من الأفضل لداني أن يذهب ويتدرب ليصبح عاملاً ماهرًا في ورشة أكرم. وتأتي وجهة نظر أكرم تعبيرا عن الواقعية، وليس بالضرورة عن خسة أو عنصرية.

وهنا تظهر نقطة قوة أخرى للفيلم، فهو لم يحرص على إعادة إنتاج تنميطات وتصوير أكرم كشيطان عنصري، بل أظهره كرجل مركب ذو جانب لائق وطيب وجانب واقعي وجانب عنصري وذكوري إلى حد ما إضافة إلي ثقل دمه . بالطبع هذا النوع من الرجال موجود وربما هو القالب شبه السائد للرجل السوداني الشمالي العادي مثل الكثير منا.

تيسر منى أيضًا دخول جوليا إلى المدرسة لتحقيق حلمها بالانتقال إلى أوروبا في وقت ما، وهو الحلم الذي شاركته مع سانتينو قبل اختفائه – نعم اختفائه إذ لا تعلم جوليا إن كان حيا أو ميتا فقد أختفي وبس. وفي الوقت نفسه، تقوم جوليا بكل شيء للعثور على زوجها ولكنها فشلت. وهي لا تعرف ما إذا كان حياً أو ميتاً أو هرب مع امرأة أخرى، كما أوحت مني، فالزوج هارب مع إمراة أخري إلي أن يثبت موته.

تصاب منى بالذعر ذات يوم عندما تعود إلى المنزل لتجد الوعاء الذي خبأت فيه بطاقات هوية سانتينو مكسورة والبطاقات ملقاة علي أرض المطبخ ومكشوطة بفعل فاعل. فتسأل جوليا التي ترد إنها ليس لديها أي فكرة عن الوعاء المكسور. ربما كسره داني الصغير. منى تشعر بالارتياح وتذهب لتأمر داني أن ينسى الأمر وأن والده هجرهم ولن يعود.

في واحدة من المصادفات العديدة التي يرتكز عليها الفيلم، يجد داني دراجة والده النارية مع جاره ذي البشرة الفاتحة ويتعرف عليها من رقم اللوحة. تحاول منى إحتواء الأمر وتخبر الطفل أن والده هرب منهم وأن الدراجة النارية انتهت مع الجيران. الطفل يبدو غير مقتنع.
تنجذب “جوليا” إلى ضابط في الجيش الشعبي السوداني يدعو إلى فصل الجنوب. يعرض عليها الضابط الحب والمساعدة في العثور على زوجها لكنها ترفض.

في لحظات صفاء تكتشف جوليا أن منى كانت مغنية بارعة. منى تعترف لجوليا أنها كذبت على زوجها عدة مرات. تسألها جوليا لماذا تكذبين، وكيف ستشعرين إذا كذب عليك الآخرون؟ وهذا يصدم منى بشدة حتي قررت أن تصبح صادقة وتبدأ بإخبار جوليا عن سبب مساعدتها لها. ولكن جوليا أخبرتها إنها كانت تعرف الحقيقة طوال الوقت فهي ليست غبية. فقد تشككت أولاً في سبب المساعدة الهائلة غير المبررة من مني. ثم عندما انكسر الوعاء، رأت هوية زوجها. من الواضح أن جوليا قررت التظاهر بأنها لا تعرف لعبة مني الطيبة القلب.
ثم تعترف منى لزوجها بأنها ظلت تكذب عليه فيطلقها ليس فقط لأنها تكذب، بل لأنه يعتقد أنها لن تتغير.

داني، الطفل، قدم أداءً موهوبًا لا يُنسى. وكانت جوليا تجسيدًا للحشمة والذكاء والنزاهة والصدق والجمال المادي والعقلي والعاطفي وكأنها رمزا للسودان الحلم الذي كان يمكن أن يكون. ولكنها كانت ملاكا صافيا يصعب وجوده وربما افتقدت شخصيتها الواقعية من شدة النقاء. رغم كل المشاكل، لم تكره جوليا أحدًا أبدًا، كانت ترى السودانيين الشماليين كأهلها رغم إشكالاتهم، وكانت ترى نفسها سودانية بنت الخرطوم ككل بنات المدينة وهذا لا يتعارض مع كونها جنوبية. وتفاعلت مع منى وغيرها دون غضب أو كراهية وبكرامة كاملة ودون دونية عنصرية أو طبقية. جوليا تكاد تكون شخصية أسطورية، حلم أكثر من كونها شخصية حقيقية ممكنة.

ينفصل الجنوب وتتوجه جوليا وداني إلى الجنوب مع ضابط الجيش الشعبي. بينما تتجه جوليا وداني إلى مستقبل مجهول في الجنوب، يقع منى وأكرم (وهما رمز الشمال) في حالة من الانقسام والتشظي والاكتئاب والتفكك الأسري والفشل الاجتماعي.

يبدو التصوير الرمزي لمصير جوليا (رمز الجنوب) المفتوح والمجهول، جنبًا إلى جنب مع الفشل الواضح لمني واكرم (رمز الشمال)، أحد الإنجازات الفنية العظيمة للفيلم أتاح نهاية أقوى وأعمق من مشهده الافتتاحي الهوليوودي/البوليوودي المتمثل في مطاردة سيارة بدراجة نارية الذي ينتهي بقتل سانتينو . لكن المشهد الافتتاحي الدرامي ينجح أيضًا في جذب إنتباه المشاهدين داخل السودان وخارجه ويرفع اهتمامهم إلى أقصاه، وبالتالي يعد نجاحًا سينمائيًا يذكر بكوينتين تارانتينو ولكن ليس تمامًا.

على الجانب السياسي، ينجح الفيلم في تجنب فخ التبسيط التجاري المفرط للعلاقات العرقية والطبقية في السودان الذي ابتليت به قطاعات واسعة من الطبقة الليبرالية المستغربة. هذا ليس إنجازًا سهلاً ويستحق الإشادة،

إذ ينجح طاقم صناعة الفيلم أن في التناول الواقعي المتوازن للعلاقات العرقية بدون حرص علي شيطنة أو إعفاء أي مجموعة بالجملة. أكرم ليس رجلاً سيئاً تماما، لكنه عنصري إلى حد ما. منى كاذبة وذات موهبة وطيبة القلب وكانت عنصرية لكنها تمكنت من تبني جوليا وداني كأسرتها حتى لو ترك الفيلم علما إستفهام حول ما إذا كانت قد شفيت من العنصرية نتيجة تورطها المأساوي مع جوليا وداني أو لأسباب أخري. ويبدو الشمالي صاحب استوديو التصوير الذي عمل معه سانتينو كإنسان لطيف ومحترم.
.
نلمس التطور الهائل لمحمد كردفاني في أن فيلم جوليا ليس حجوة أخلاقية تبسيطية مثل ما راينا في فيلم ناركوك.

من ناحية أخرى، تم أيضًا تطوير شخصية ضابط الحركة الشعبية بشكل جيد في الفيلم. فهو الجنوبي الغاضب بشكل مشروع، واثق ومصمم ومقاتل شرس، حريص على وراثة امتيازات الجلابة كما نري من منزله الرائع علي النيل وحرسه الذي يأتمر بامره كلورد قيد التصميم. ويقودالضابط خط الانفصال ويمضي قدمًا لإنشاء دولة جحيمية لا تعامل جوليا أو أي إنسان آخر بشكل صحيح وتعيد إنتاج كل أمراض السودان الموحد.

ومع أن الفيلم لا يقع في فخ الشيطنة العنصرية التبسيطية، إلا أنه يظهر المسيحية على أنها لطيفة مقارنة بالإسلام الإشكالي المرتبط بأكرم المتشدد والعنصري. وفي حين أن “الإسلام” لا يرتاح للمغنيات (وهذا صحيح بالنسبة لمعظم المذاهب الإسلامية)، فإن الكنيسة تبدو وكأنها ترحب بالنساء والمغنيات وباختلاط الرجال بالنساء. في حين أن هذه الصورة مفهومة في السياق السوداني حيث المسيحية هي ديانة أقلية مستضعفة، فإن أوضاع المرأة في البلدان الأفريقية ذات الأغلبية المسيحية ليست بأفضل مما هي عليه في شمال السودان ولنترك جانباً الارتباط القوي بين المسيحية الغربية بالعنصرية والعبودية واسعة النطاق والاستعمار والاستغلال الفائق للدول الأخرى سواء كانت مسيحية أو غير ذلك. لكن هذه اهتمامات تاريخية نذكرها كسياق إنساني أوسع وليس من واجب فيلم جوليا أن يتناول كل جوانب تاريخ الجنس البشري.

لكن لا يزال بإمكان المشاهد أن يتساءل بشكل معتدل عن أسماء أهل الجنوب الموجودة في الفيلم، والتي كلها مسيحية “غربية” – سانتينو. جوليا. داني. ولا يحمل أي منهم اسمًا سودانيًا/جنوبيا ظاهرًا حتى كاسم ثانٍ أو أول . يتوافق هذا أيضًا بشكل جيد مع عقد الصليب الجميل على رقبة جوليا المثيرة للإعجاب مقارنةً بالصلوات العصبية المخيفة نوعا ما التي يلقيها أكرم العنصري الذكوري.

على بساط فني خالص، يرتكز الفيلم على الكثير من المصادفات غير المعقولة وغير المحتملة. لكن غارسيا ماركيز دافع عن مثل ذلك عندما أعرب عن أسفه من أن الفن ممنوع من الاستفادة من من المصادفات التي تحدث بكثرة دائما في الحياة الحقيقية ولا صدفة تفوق صدفة الميلاد مبدأ الحياة. أضف إلى ذلك أن الفن هو فن وليس من المفترض أن يقدم صورًا فوتوغرافية لواقع معقد جدًا وواسع لا يمكن تعريفه ضمن قيود ضيقة.

وداعًا جوليا قطعة فنية رائعة مليئة بالرمزية السياسية الذكية وهو فيلم جاد ولكنه أيضًا ممتع من الناحية الفنية ويشد المشاهد شدا. الفيلم يودع جوليا – السودان الحلم الجميل بالجنوبيين الذي فقدناه – ولكنه أيضاً يفتح عصراً إبداعياً جديداً في كتاب السينما السودانية.

معتصم أقرع

Exit mobile version