وضع عضو مجلس السيادة الإنتقالي السوداني، نائب القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن شمس الدين كباشي نقاطاً كثيرة في خطابه أمس (الخميس) بولاية النيل الأبيض على حروف كانت تائهة في المشهد الراهن بالسودان، في وقت تحتدم فيه المعارك على الأرض بين الجيش وقوات الدعم السريع المتمردة، تؤكد فيها التطورات انتشار الجيش بشكل كبير، فيما تشهد ساحات التفاوض المتفرقة جموداً ملحوظاً، فإلى أي مدى ستوجه فيه تصريحات كباشي دفة الأمور المعقدة بالبلاد.
حديث كباشي
شمس الدين كباشي في حديثه أكد أن القوات المسلحة تتقدم بخطى ثابتة لإنهاء التمرد وطرده نهائياً، وقال إن القوات المسلحة تحمل غصن الزيتون بجانب البندقية لمن أراد السلام والتفاوض، بما يحفظ كرامة الشعب السوداني ويرد حقوقه، كما أكد أن الخروج من المنازل والأحياء والأعيان المدنية والمؤسسات الحكومية والخدمية العامة والخاصة التي تحولت لساحات قتال هو الشرط الأساسي لاستئناف التفاوض الذي بدأ من قبل في جدة، مضيفاً أن القوات المسلحة لن تبدل مواقفها ولن تتراجع ولن تغفر لكل من انتهك عرض الشعب السوداني وسرق ممتلكاته وروع أمن وإستقرار المواطنين، لافتاً إلى أن قائد التمرد يمارس الكذب والتضليل من أجل رفع الروح المعنوية لجنوده التي باتت في أسوأ حالاتها بعد أن تلقت هزيمة تلو الأخرى في كافة المحاور والجبهات، وشدد أنه لا فتح لأي ملف سياسي قبل إغلاق الملف العسكري، ودعا السياسيين للبحث عن الحلول من داخل الوطن وليس خارجه، مبيناً أنه لابد من الجلوس مع كل أطياف الشعب السوداني للوصول لحلول مرضية للجميع، قائلاً: لن تفرض علينا أي جهة خارجية حلولاً، وتابع أن الحل والتفاوض يكمن داخل السودان ولن نسافر للإلتقاء بأي شخص بالخارج، وأن أي لقاء يتم داخل الوطن.
تغيير لافت
تصريحات كباشي أثارت كثيراً من الجدل، بعدما كان قد تسرب من أخبار عن مفاوضات سرية جمعت بينه وبين عبد الرحيم دقلو قائد ثاني مليشيا الدعم السريع في العاصمة البحرينية “المنامة” مؤخراً، فما الذي تغير في موقف الرجل، الذي ذهب ليبحث عن حلول تفاوضية، ثم عاد ليدلي بهذه التصريحات التي هاجم فيها “الدعم السريع”، والتي طالت أيضاً تنسيقية القوى المدنية والديمقراطية ” تقدم”، حيث اتهمها بشكل صريح بأنها الحاضنة السياسية للتمرد، وقطع الطريق أمامها لعودة الإتفاق الإطاري من جديد، مؤكداً أن التفاوض العسكري أولاً، قبل أن تدلف القوات المسلحة في أي تفاوض سياسي يشمل الجميع دون استثناء، ودعا “تقدم” بأن تأتي إلى السودان للحديث مع الجيش وليس خارج البلاد، متسائلاً لماذا تخشون الحديث داخل السودان، أهو خوف من الشعب، فكيف تخشون شعباً تريدوا أن تحكموه، ثم عاد وأكد أنه ليس هناك حديث عن دمج الدعم السريع في الجيش مرة أخرى، بل هناك حديث عن ترتيبات أمنية.
ويبدو أن الرجل إما أن يكون ذهب إلى المنامة وسمع هناك ما لا يرضي الجيش، بزج التفاوض السياسي في العسكري، وتمهيد الطريق أمام عودة تقدم واتفاقها الإطاري من جديد، وإما أنه لاقى رفضاً كبيراً من داخل الجيش لتلك المفاوضات السرية… فما هي أسباب تصريحات كباشي في هذا التوقيت وما هي مآلاتها على الحرب والمشهد الراهن بالسودان؟
لا يمثل نفسه
الكاتب الصحفي والمحلل السياسي الدكتور مزمل أبو القاسم صاحب تسريب خبر مفاوضات المنامة أكد من جانبه أن كباشي لا يمثل نفسه بقدر ما يمثل مؤسسة الجيش، وأنه يتحرك وفقاً لتعليمات وتوجيهات وثوابت المؤسسة التي ينتمي إليها حتى ولو خالفت آراءه وتوجهاته الشخصية. وقال أبو القاسم لـ “المحقق” معلوم أن كباشي تبنى مساراً تفاوضياً سرياً مع المتمردين في العاصمة البحرينية المنامة، بمشاركة أربع دول (مصر والسعودية والبحرين والإمارات)، حيث التقى قائد ثاني قوات الدعم السريع المتمردة، عبد الرحيم دقلو، واتفق معه على جملة من القضايا والمواقف لكن ذلك الإتفاق لم يحصل على رضا وموافقة الفريق البرهان، مشيراً إلى أن انكشاف الستار عن التفاوض السري بمشاركة الإمارات المتهمة عند الحكومة السودانية بدعم المتمردين أثار موجةً من السخط عليها، داخل المؤسسة العسكرية وفي صفوف الشعب السوداني الحانق على مليشيات الدعم السريع عطفاً على انتهاكاتها المريعة في حقه، ولذلك فهمنا مسببات تراجع كباشي عن مساعيه الرامية إلى إبرام حل تفاوضي أو تسوية تضمن للدعم السريع بقاءه في الساحتين السياسية والعسكرية، وتابع لأن ذلك الأمر لم يعد مقبولاً لا للشعب ولا للجيش، لافتاً إلى وصف كباشي لقوى الحرية والتغيير/ تقدم بالجناح السياسي للمليشيا، مؤكداً أن ذلك يؤذن بانقطاع الحبل السري الذي كانت تلك القوى تستخدمه للتواصل مع قادة الجيش ومجلس السيادة السوداني.
صدام المواقف
فيما يرى الكاتب الصحفي والمحلل السياسي السوداني محمد محمد خير من جهته أن ما حدث في المفاوضات السرية بالمنامة كان تمهيداً غير رسمي لمفاوضات رسمية وهي منبر جدة. وقال خير لـ ” المحقق” يبدو أنه إما كانت هناك نقاط من الصعب حسمها في التفاوض الرسمي، لذلك تم التشاور حولها في المنامة، وإما تنافس إقليمي لتكوين أجندة متفق عليها بجدة برعاية إماراتية، وأرادوا إشراك مصر فيها لضرب عصفورين بحجر واحد – على حد قوله -، مضيفاً يبدو أن ما أخرجته مباحثات المنامة اصطدم مع موقف البرهان الذي أظهر دعماً جاداً للجيش ساعده في الإنتصار على الأرض، معتقداً أنه كانت هناك فجوة وجفوة بين موقفي البرهان وكباشي، مؤكدا أن كباشي عاد لموقفه الأصلي، وأنه لم يتخذ موقفاً جديداً، معتبراً أن ما حدث هو تطوير لموقفه القديم والذي يتفق مع موقف البرهان الحالي، لافتاً إلى أن موقف كباشي أكثر أصالة من البرهان، مضيفاً أن خطاب كباشي فيما يخص “تقدم” كان على عكس ما يرغبون فيه، وأن موقف تقدم الآن تغير بعد التطورات الأميريكية الأخيرة في الكونجرس، كما اعتقد أن تقدم لن تكن في معسكر الدعم السريع أخلاقياً بعد تقرير الكونجرس، وأن ما تفعله “مولي في” مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية هو مراسم وداعية للموقف الأميريكي، مؤكداً أنه لا يمكن لأميريكا أن تسير في خط الدعم السريع بعد تقرير الكونجرس، مستدركاً في الوقت نفسه أن أمريكا لن تربط صلتها بالدعم السريع بصلتها بـ تقدم، وأن الأخيرة بدون الدعم السريع لا تساوي شيئاً، وقال إنهم سيتعاملون مع تقدم كقوى ديمقراطية وهي لا تكتسب هذا الموقف إلا بوزنة من الدعم السريع، وتابع أن تأجيل المفاوضات السياسية إلى ما بعد الإنتهاء من الحرب عمق المأزق أمام تقدم، موضحا أن كل المسارات الحالية تؤكد أن الدعم السريع أصبح بالنسبة للجيش وقطاعات عريضة من الشعب مؤسسة محكوم عليها بالفناء، وقال إن خطاب كباشي لابد وأن يتبعه تقدم حقيقي على الأرض في غضون الأيام المقبلة، وتقهقر الدعم السريع لضمان خروجه من المربع السياسي لتقدم، مؤكداً أن ما جاء في خطاب كباشي يمثل خطاً من خطوط حل الأزمة بالبلاد، وربط ضمان استمراريته بمدى تقبل السياسية الإقليمية والدولية له، ومدى تفوق الجيش على مليشيا الدعم السريع، مبيناً أن أمريكا تسير الآن في الإتجاه القانوني في الكونجرس، وأنها تنفيذياً تسير في اتجاه تقدم، وتغض الطرف عن الدعم السريع، وقال لكن أميريكا لديها ظروف انتخابات وخطاب مخالف في الكونجرس إضافة إلى كتلة سوداء، مؤكداُ أنه بنسبة كبيرة سوف تتخلى أمريكا عن الدعم السريع، وسوف تشجع في تقديم قادته إلى الجنائية الدولية، وأنها في المقابل ستدعم حركات دارفور المسلحة.
الوضع تغير
أما عثمان ميرغني رئيس تحرير صحيفة التيار فقد رأى أن ما حدث في المنامة كان متزامناً مع رجوح الكفة العسكرية للدعم السريع. وقال ميرغني لـ ” المحقق” إن الوضع الآن تغير بتفوق الجيش في المعارك العسكرية، وأن الملعب الآن مختلف تماماً عما كان عليه في المنامة، لافتاً إلى أن البرهان كان يناور بمفاوضات المنامة لتثبيت الصورة الذهنية للمجتمع الدولي، مؤكداً أن القرار الآن لاستمرار العمليات العسكرية على أي محاولة للتفاوض، وأن تأجيل العملية السياسية لما بعد الحرب هي محاولة لاكتساب زخم أكبر للمجموعات السياسية المساندة للجيش، وقال إن الحديث عن أنه لا توجد أي عملية سياسية إلا بعد الانتهاء من الحرب قد ذكر في خطاب نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار الأخير، وهذا يدل على أن هذا القرار قد اتخذ بطريقة مؤسسية، معتبراً أن ذلك يدل على خطورة الفكرة، وقال إن الحرب نفسها عملية سياسية والإختلافات التي أدت إليها سياسية، وأي حديث عن تأجيلها ليس به منطق، وتابع أن الحديث عن عدم الدمج هو واقع الحرب الآن، لكن الموقف بعد ذلك ستكون به ترتيبات أمنية بمقتضاها سيتم تسريح جنود الدعم السريع، وربما إعادة توظيف بعضها في القوات المسلحة، مشيرا إلى وجود حملة سياسية ضد تقدم الآن وهي لصالح القوى السياسية التي تساند الجيش وترى أحقيتها في ترتيب المشهد السياسي بعد الحرب، وأن هذا هو نفس المنهج الذي تعمل به تقدم من اقصاء للآخرين، مبيناً أن الجيش في الأسابيع الماضية حقق انتصارات كبيرة على الأرض، بضرب مناطق السيطرة والأركان الأساسية للدعم السريع، مؤكدا أن الجيش إذا استمر بهذه الطريقة سوف يحدث إنهيار كامل لقوات الدعم السريع.
القاهرة-المحقق: صباح موسى