تختلف الخطط المتداولة في مجال كرة القدم بين الجنوح للهجوم أو الاستماتة في الدفاع، أو بالجمع بينهما بحسب الإمكانيات البشرية المتوفرة وظروف المقابلات. وتسعى الفرق المتبارية للوصول إلى مرمى الفرق المنافسة بواسطة تجاوز خطوط الدفاع، إما باللعب بتمريرات قصيرة أو بأخرى طويلة كطريقة ناجعة لتسجيل الهدف الفارق الذي يضمن الفوز والانتصار لهذا الفريق أو ذلك.
وأمست البشرية مطالبة بإيجاد وسائل “مسلية” لتجنب العنف بابتكار اللعب ومنها كرة القدم، وتطورت قوانينها المنظمة، ما ساعد على الممارسة وزاد من جرعات التشويق، فتمكنت الفرق من إبراز هويتها ومجدها من خلال مواجهة الذات لـ “الهو”. وفي خضم المواجهات بات من الضروري رفع شعار “الروح الرياضية”، رغبة في دفن الروح العدوانية الشريرة، وذلك منذ زمن الألعاب الأولمبية إلى اليوم؛ مع العلم أن المنافسة الرياضة لم تستطع أن تقضي على الحروب التي يشتعل فتيلها من حين لآخر، حتى في قلب المجتمعات الصناعية الحديثة. ولم تستطع الحروب أن تلغي المسابقات الرياضية رغم حربين عالميتين مدمرتين.
أصبح البحر المتوسط – القلب النابض للبشرية ومهد الحضارات القديمة – “مستهدفاً” لأنه ببساطة أزعج أطراف المعمور، ما عجل بتكرار المحاولات لإسقاط روما من طرف الشعوب الجرمانية الموجودة على الهامش بأقصى الشمال، وشجع آخرين على الهجرة إلى عالم جديد. ومن هنالك، من تلك البقاع البعيدة، ستأتي الحملات السريعة، جوية وتارة بحرية، في غفلة من ركود المتوسط، كمحاولة لإحكام السيطرة عليه وشل حركته. فهل ستتخلى بعض الفرق عن التمريرات القصيرة وتستنجد بالتمريرات الطويلة احتراما لمنطق “البرغماتية”؟.
ليست البراغماتية هي القول إن “الفوز بكأس إفريقيا أمر سهل”، كما عبرت عن ذلك بعض المنابر الإعلامية كلما تعلق الأمر بهذا الاستحقاق، لأن العملية في مجملها معقدة جدا، والغاية قبل الفوز تستدعي احترام الخصم وترويج ثقافة التواضع كما جاء وتكرر على لسان لاعبي فريق كغينيا الاستوائية وهم يواجهون “كبار” إفريقيا.
تتحول الرياضة عامة وكرة القدم على وجه الخصوص إلى مناسبة لنشر القيم الحضارية، مع التطلع الشديد لاحتلال الصفوف المتقدمة كلما سمحت الظروف بذلك، مع العلم أن التتويج لن يحصل دائما مهما كان حجم الإمكانيات المرصودة، ومهما كانت الرغبات، لأن كرة القدم ليست بعلم، وفي ظل وجود أشد المنافسين والخصوم.
فالدول التي اختارت فكرا فلسفيا أو على الأصح منهجا برغماتيا كأسلوب يناسب تطلعاتها ظلت وفية له، بحيث برزت مظاهره على المستويات الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية، وامتد تأثيره بشكل واضح إلى كرة القدم بتطبيق أسلوب لعب تغلب عليه الكرة الطويلة الكفيلة بالوصول السريع إلى مرمى الخصم وتسجيل أكبر عدد من الأهداف، كما هو الحال في البطولة الإنجليزية والأمريكية. إلا أن هذا الاختيار رغم نجاعته فإن الدول المخلصة للتمريرة الطويلة لم تفز بكؤوس أممية أو عالمية كثيرة. وظهر للمتتبعات والمتتبعين أن الأساليب في مجملها تتأرجح بين الوفاء للاستعراض وبين الجنوح المباشر للتهديف، أو الجمع بينهما. وغالبا ما خرجت البرازيل خاوية الوفاض من تظاهرات ككأس العالم فقط لأنها أبدعت وأمتعت؛ ونسخة كأس العالم التي جرت مبارياتها بإسبانيا صيف 1982 خير مثال على ذلك؛ فقد فازت إيطاليا لأنها استوعبت الدرس من زمن سقوط روما على يد الشعوب الجرمانية الشمالية.
يمكن القول –مجازا – إن سقوط روما حصل بفعل التجاء الشعوب الجرمانية للكرات الطويلة التي تتطلب لياقة بدنية عالية، وتوفرها على القامات الطويلة التي تساعدها على ربح النازلات الهوائية والتسجيل بالرأس؛ وبالتالي فالرأس الذي يحمل الأفكار هو الذي يسجل، يتصور وينفذ.
إن البرغماتية، في نظر روادها وفي مقدمتهم تشارلز بيرس، ويليام جيمس، وجون ديوي، هي تصور واقعي ومن خلالها يمكن العبور الفوري لممارسة الفعل. فالعقل البشري في نظر جيمس “لم يخلق إلا ليكون أداة للحياة ووسيلة لحفظها”. ومن العبث أن يتوفر الإنسان على مهارات فردية وعقلية فيبددها في البحث عما لا يخدم حياته ويفيد. وعلى غرار هذا القول فمن العبث أن يقوم لاعب كرة القدم بتكرار التمريرات القصيرة أو تفضيل مراوغة الخصم باللجوء إلى “القنطرة الصغيرة “عوض الدفع المباشر للكرة في اتجاه تسجيل الأهداف!.
ستتمكن أمريكا بفضل المنهج البرغماتي من تعزيز ريادتها للعالم وفرض “مجتمع القوة”، بل عندما غرقت أوربا في الحروب الطاحنة عبر معارك على الأرض قادها أدولف هتلر ومن معه استنجد الحلفاء هنا بالطائرات الإنجليزية والأمريكية كخيار ناجع لأن التمريرات الطويلة عبر الجو هي من صلب المجتمع النفعي، فربحت بذلك النزالات وحققت انتصارات متحدية بذلك المثالية الكانطية، ومنتصرة على التمريرة القصيرة.
يبدو للجميع أن ربح المسافات على الأرض لا يأتي بتدحرج الكرة عبر البساط فقط والمراوغة، يتم كذلك عن طريق الإنزال من الأعلى وبشكل مباغت لا تصمد معه الدفاعات مهما كان علو الأسوار وصلابة المتاريس. إن التكتيكات في مجال كرة القدم ليست منعزلة عن المجال العسكري – الحربي، ولا يمكن ممارستها في معزل عن ثقافة الشعوب وتطلعاتها المستقبلية.
يمكن للمتابع أن يجد المعاني للطريقة التي تلعب بها إنجلترا وأمريكا باللجوء إلى التمريرات الطويلة والقذف من بعيد بإرسال قذائف وصواريخ عابرة للقارات، في حين تلعب فرق أخرى بطريقة الهجوم عن طريق الاحتفاظ بالكرة attaque placée.
في ظل التنافر بين المثالية والواقعية سعت عدة فرق للخروج من العقم الهجومي بنهج أسلوب توفيقي يجمع بينهما، فحاولت مثلا إيطاليا أن تنتبه إلى ضرورة الجمع وهي الوفية لدفاع المنطقة بشراسة، تارة تربح وتارة تسقط. أما هولندا ومعها إسبانيا فهما يبدعان حقا لأن متعة العين بالنسبة لرائد الكرة الشمولية يوهان كروف هي الغاية من تجارب الحياة وليس الفوز بالكؤوس.
إن هذه القراءة السريعة في علاقة كرة القدم بالفكر أو بالمنهج البرغماتي أو غيره من الطرق هي من المواضيع التي تتطلب دراسات جدية أعمق تسمح بفتح فضاء الممارسة الكروية على علوم أخرى، ومنها العلوم الإنسانية والاجتماعية، على الأقل لتوسيع باب المناقشة الذي احتكره في الآونة الأخيرة ممارسون سابقون، وإعلاميون.
وأبانت المتابعة لمباريات كأس إفريقيا في نسختها 34 عن رغبة الفرق الواقعة بجنوب القارة “السوداء” في رشق الفرق الواقعة على شريط البحر المتوسط باستعمال الكرات الطويلة. وتبين كذلك اختيار هذه الفرق الطريقة الإنجليزية في اللعب التي تعتمد الهجمة المباغتة بالكرات الطويلة في ظهر الخصوم. تحضر القوة البدنية مقابل اللمسة الفنية في ظل ظروف مناخية حارة ورطبة. لكن ما هي الوسيلة المناسبة للرد، هل القيام بإجراء تعديلات راديكالية على طريقة اللعب والقيام باختيار لاعبين أصحاب البنية القوية على حساب البنية النحيفة، بما أن “الأدغال الإفريقية” تستدعي ذلك؟ قد يكون هذا الاختيار منافياً للتكوين الجيني لشعب بأكمله؛ فهل يمكن الاستنجاد مرة أخرى ب “الجيش البخاري” من نيجريا في غياب المهاجم القوي والقناص؟ أم إن العمق الصحراوي للمغرب بإمكانه أن يقدم عدة حلول إذا ما توفرت أكاديميات بهذه المناطق؟.
إن المغرب في تقديري يميل للجمع بين متعة العين والبحث عن تسجيل الأهداف كمقاصد، ويملك مقومات ذلك، أما الاختيارات الراديكالية التي تقطع قطعا مع الماضي فبعيدة عن تركيبة المجتمع وخصوصيته. المعارك الكبرى في تاريخ المغرب رُبحت بالالتجاء إلى التكتيك التالي؛ ففي حالة قوة الخصم فلا سبيل إلا الدفاع والقيام بالهجوم المباغت، كما كان الحال في معركة أنوال سنة 1921م ضد القوى الاستعمارية المعززة بالطيران الأجنبي. أما في حالة القوة فيوسف ابن تاشفين في معركة الزلاقة (1086م) على سبيل المثال اختار الهجوم في قلب معقل الخصم – منتقلا من مراكش للأندلس – مع ترك أحسن الفرسان في الاحتياط واللجوء إليهم في الأشواط الأخيرة لترجيح الكفة وإحكام الضربة القاضية على الجيش القشتالي.
وأقول في هذا الباب في كتاب ((أب في الذاكرة، 2021 صص:21-22): “أتساءل دائما منذ انفتاحي المبكر على علم التاريخ لم لا نستفيد من التكتيك الذي أدار به يوسف بن تاشفين معركة الزلاقة ، بالاعتماد على عنصر المفاجأة وبالتقدم بالقوة الاحتياطية كورقة رابحة، حيث احتفظ ابن تاشفين بخيرة المحاربين للجولة الأخيرة من المعركة. الجيش بحسب المصادر كان منظماً على شكل هلال ميمنة وميسرة ثم مقدمة….أو لم لا نقتبس الخطة من تكتيك عبد الكريم الخطابي في معاركه المبني على الدفاع والهجوم المباغت، أي الانكماش ثم الحملات المضادة بلغة المدربين…هكذا ربحت معارك الإنسان المغربي”.
بعبارة أخرى فكرة القدم بالمغرب مطالبة بالبحث عن أسلوب توفيقي يجمع بين الفعل في حالة ضعف الخصم، وردة الفعل عند مواجهة الأقوياء، وبالإمكان العثور على إشارات ملهمة في معزوفات موسيقى كناوة، وعند الطرق الصوفية، خاصة التي وصلت إلى عمق قلب “ماما إفريقيا”.
نشير في ختام هذه الورقة إلى أن قبائل الفايكينغ ما كان بوسعها أن تصل إلى البحر المتوسط لولا الرهان على السفن الطويلة لمخر عباب مياه البحر. وبحسب المؤرخ برونو دوميزيل ما كان لهم أن يندفعوا بقوة لولا الإحساس الشديد بالجوع بعد نقص كثير في المحاصيل إثر مواسم باردة جدا. إن اللجوء للاعبين أقوياء بدنيا، بقامات طويلة، وجياع، وسيلة من الوسائل لربح المسافات والنزالات، ولم لا التتويج بالكؤوس.
غيلان خالد – هسبريس المغربية