أكاد أجزم أن نصيب هذا الشعب من الذكاء يفيض ويطفح عن معظم شعوب الأرض، حتى لتجده في الصدارة أينما حل ورحل.. حظه وفير عند القاع إذا ضيقوا عليه الطريق وأغلقوا عنه الأبواب، وهو يسيطر ويستحوذ على القمة إذا استدعوه واستحضروه وأفسحوا له الطريق.. منافس ومشاكس ومبارز وعلى الرؤوس.
وأكاد أقسم أنه بارع في تسلق الأسوار، إذا فرضوها واشترطوها عليه، وماهر في ارتقاء سلالم الرقى بتؤدة وصبر إذا كان هذا هو النصيب والمقسوم. وأكاد أتعهد بأن هؤلاء القوم جادون مجتهدون، ما كان النظام والاجتهاد هما السبيل ليس غير، وهم متهاونون مستخفون ما زال التراخى والتفريط والمحسوبية عنوان القائمين، وهو بين هذا وذاك لم يسرف ولم يقتر وكان بين ذلك قواما!.. وآه وألف آه لو رأى الفهلوة تؤم الناس وتتقدم الرؤوس، فإنه يسارع فيتقنها ويهرع إليها محبا ورفيقا وخليلا.. معذور؟! نعم.. مُلام؟ لا وألف لا.. فقديما قالوا: «الناس على دين ملوكهم». والشعوب تسير على سطر وتترك الآخر إذا مال ميزان العدل، وراوغهم حكامهم.
وأكاد أشهد للأغلبية منهم بالخبرة في تتبع أولى الأمر منهم، فيميلون لهم كل الميل، وينصرفون عمن سواهم، مهرة في اقتفاء خطى حكامهم فيُطيبون لهم الخبيث، ويزينون لهم سوء أعمالهم، ويستسيغون مُر شرابهم، ويستهجنون الحلو من غيرهم، حُذّاق في اختبار الأنظمة والقوانين والتعليمات، فيعرضون عنها جميعا إذا تعداها وتخطاها عِلية القوم.. كل هذا وأكثر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، إلا إذا كان هذا السبيل مغلقا أو ضيقا فيعتدلون ولا يميلون، ويدنون ولا ينصرفون، ولا يستسيغون إلا الحلو من الشراب، ولا يستهجنون إلا المر حتى لو كان مقررا على موائد الحكام.
ثم لماذا هذا الإطراء وهذا الإعجاب بشعبٍ وهو أول من يسىء الظن إلى نفسه، ويَصِم نفسه من العيوب ما ينكرها عليه غيره، ويضخم في معاصيه وآثامه حتى لتظن أن المحاسن والمكارم قد فاتت ولم تسكن دياره، بل يرفع حرج اللوم والعتاب على من أساء إليه وفشل في ترويضه وأخفق في قيادته وإدارته ويحطّها على رأسه مخافة الملاقاة والمجابهة.. وللإجابة عن السؤال.. تعالَ نستكمل معا لقطة أو اثنتين:
الأولى: أراه من كل الوجوه شعبا طيبا ومتسامحا ومهاودا، والأجمل فيه أنه يقبل نصف الحلول دوما، قل: الأغلبية منهم.
أرايت يوما خلافا محتدما بين طرفين، اجتمع فيه القوم للفصل بينهما إلا وكانت كل الأطراف، حتى المحكمون أنفسهم قد باتت نواياهم توزيع الضحية إلى نصفين، حتى يخرج كل طرف من الأطراف منتشيا ومنتصرا.
أرايت يوما مشاجرة أو عراكا بين طرفين في شارع، ويرتفع الصياح والتهديد إلى عنان السماء، وكل منهما يترقب وينتظر أن يتقدمهما طرف ثالث يهدئ من روعيهما ويخفف ثورتيهما فيستجيبان، وقد كانت نارا فأصبحت رمادا في لحظة أو لحظتين.. مظاهر الطيبة ممدودة كالغطاء، مرصوصة كقوالب الطوب اللبن، منحوتة على جدران بيوته عنوانا لا يضل ولا يهدى.
والثانية: هو حلو المعشر والعشرة، خفيف الظل، سلس القيادة، أما عن باله فهو طويل، حتى لتحسبه طريا لينا، يروح معك ويهاودك حيثما ذهبت، إلا أن أعين هذا الشعب لا تتغافل عنه، يُطل من طرف خفىّ يرقبه ويتتبعه، يرصده ويترصده حتى يسترده، صبور حدود الصبر كله حتى أعجزه، حليم حتى تأفف منه الحلم وأوهنه وأضعفه، راض وقانع بالمقسوم، محتسب يا أخى كل شىء وكل ظلم إلى يوم يعلمه علم اليقين.. إن المظالم ستعود إلى أهلها.. وتعالى إلى مربط الفرس، أليس لهذا الشعب بما له وعليه أن يعيش ويحيا كباقى الأمم، كمن هم أقل منه شانا وقيمة وعلما وحصافة وذكاء؟! ألسنا كبقية خلق الله يفهمنا أولو الأمر فيعطوننا مما أعطاهم الله؟.. يا أخى.. ما عرفت طيبة وتسامحا وصبرا ورضا بالقليل والمقسوم واحتسابا كما رأيتها فيه.. ألم يحن الأوان أن يكون هذا نصيرا ومعينا لهم، وليس مناهضا ومعارضا لهم؟ حجة لهم وليس عليهم؟ باعثا وحافزا وليست عائقا أو مانعا؟ بينة لقبول محاسنهم وتقويم عيوبهم؟.
أما عن شرح عنوان المقال (فإن أسماء بنت أبى بكر اعتادت المرور على ابنها عبدالله بن الزبير وهو مصلوب على باب الكعبة، بعد أن قتله وصلبه الحجاج بن يوسف الثقفى، تبكيه حتى فقدت بصرها، قالت قولتها الشهيرة ترجو الحجاج أن يعتق جثمانه ويواريه التراب «أما آن لهذا الفارس أن يترجل»..
«الدولة المدنية هي الحل»
عادل نعمان – المصري اليوم