مر بنا فى المقال السابق مدى استمرارية العوامل التاريخية والعوامل الجيو-سياسية التى تحكم طبيعة العلاقات بين مصر وإثيوبيا. والنقطتان الأكثر أهمية، وحساسية أيضًا، فى هذا الشأن مسألة التهديدات الإثيوبية، ومنذ العصور الوسطى وحتى الآن، فى التأثير على إمدادات مياه النيل إلى مصر، والنقطة الثانية هى أمن باب المندب وحرية الملاحة فى جنوب البحر الأحمر والقرن الإفريقى.
ورغم المشاعر غير الودية من جانب أباطرة الحبشة- إثيوبيا- تجاه مصر، فإن الأخيرة حرصت دائمًا على بقاء الدبلوماسية، بل القوى الناعمة كعامل ود وربط بين مصر وإثيوبيا. ربما لا يعلم البعض أن المسيحية دخلت إلى إثيوبيا من خلال مصر. وترتب على ذلك أن الكنيسة الحبشية أصبحت هى الابنة للكنيسة الأم، الكنيسة القبطية. وحرصت الأخيرة على رعاية الحياة الدينية فى الحبشة. واعتادت الكنيسة القبطية على إرسال مطران قبطى ليرأس الكنيسة الحبشية، ويعطى البركة للنجاشى إمبراطور الحبشة. واستضافت الكنائس والأديرة القبطية الرهبان الأحباش، حيث تلقوا التعليم والرعاية الدينية. ولعبت الكنيسة القبطية أدوارًا مهمة فى تهدئة، بل تحسين، العلاقات بين القاهرة وأباطرة الحبشة.
لكن السلطات فى الحبشة لم تنس العداء مع مصر، والتنافس التاريخى سواء فى حوض نهر النيل، أو فى جنوب البحر الأحمر. ويروى لنا التاريخ أنه كان من أهداف الاستعمار البرتغالى، زمن الكشوف الجغرافية، تنشيط طريق رأس الرجاء الصالح بالالتفاف حول إفريقيا، والتحالف مع الحبشة، وخنق طريق التجارة العالمى الرئيسى عبر البحر الأحمر، لإضعاف مصر، التى كانت تجارة الترانزيت، قبل حفر قناة السويس، تشكل المورد الأكبر فى الخزانة المصرية.
من ناحية أخرى، عمدت السلطات الحبشية إلى إثارة النزعة القومية الإثيوبية، فى محاولة للتغطية على الخلافات العميقة بين مختلف الأعراق واللغات التى تعيش تحت حكم الإمبراطورية الحبشية.
ومرة ثانية تتحالف السلطات الحبشية مع الاستعمار الأوروبى فى حملة منظمة لتشجيع التبشير الكاثوليكى ثم البروتستانتى بين الأحباش، لضرب نفوذ الكنيسة المصرية فى الحبشة. وبالفعل نجحت السلطات الإثيوبية فى الفصل بين الكنيسة الأم، الكنيسة القبطية، والكنيسة الحبشية، تحت زعم القومية الإثيوبية، وكيف تُشرِف كنيسة «أجنبية»، أى الكنيسة القبطية، على الكنيسة الوطنية الإثيوبية. والأكثر من ذلك هو تحالف السلطات الإثيوبية مع السلطات الإسرائيلية فى مسألة تمكين الرهبان الأحباش من دير السلطان فى القدس رغم أنه من الأديرة القبطية.
ومع ذلك وافقت القاهرة مع تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية عام ١٩٦٣ على أن تكون أديس أبابا هى دولة المقر، وليس القاهرة، حفاظًا على سلامة العلاقات بين أديس أبابا والقاهرة، ودرءًا لدعاوى ظهرت آنذاك بأن دولة المقر لا بد من أن تكون فى إفريقيا السوداء، وليست إفريقيا شمال الصحراء، إفريقيا العربية، وكان الهدف من ذلك ألا تكون القاهرة دولة المقر.
العلاقات الإثيوبية المصرية تمر الآن بمنعطف خطير، جراء تهديد سد النهضة لإمدادات مصر المائية، ثم تمدد إثيوبيا فى منطقة القرن الإفريقى وتعديها على وحدة الأراضى الصومالية، والصومال دولة عربية شقيقة، وهكذا تستمر إثيوبيا فى سياستها العدائية حتى الآن.
د. محمد عفيفي – جريدة الدستور